- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
"يداك أوكتا وفوك نفخ"
الخبر:
بدأ وزير الخارجية ريكس تيلرسون يوم الجمعة 2017/10/20 زيارة للسعودية وقطر وباكستان والهند وسويسرا، في جولة تستمر أسبوعا. وقالت الخارجية الأمريكية إن تيلرسون سيبحث في الشرق الأوسط عدة قضايا منها الصراع في اليمن والملف الإيراني والأزمة الخليجية.
وتأتي هذه الزيارة بينما تواصل الكويت جهود الوساطة لحل الأزمة الخليجية. حيث استقبل أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في الدوحة وزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح خالد الحمد الصباح الذي يحمل رسالة من أمير الكويت.
التعليق:
أشبه ما يكون تيلرسون في جولته كمن لف الحبل على عنقه وكاد أن يختنق. فأزمة الخليج اخترعتها أمريكا منذ بضعة أشهر ظنا منها أنها تضع حدا لتحرك بريطانيا السريع في منطقة الخليج. إلا أنه كما يقال في الأمثال الشعبية "حكي القرايا لم يأت مطابقا لحكي السرايا". فلا قطر سقط منها السيف، ولا الجزيرة خفت صوتها، ولا بريطانيا تراجعت. فأصبحت أزمة الخليج أزمة حقيقية يمكن أن تؤثر على المصالح الأمريكية هناك، بعد أن كانت أمريكا قد أحكمت سيطرتها ونفوذها بعد حرب الخليج الثانية واحتلال العراق. من هنا تأتي زيارة تيلرسون لعل العطار يصلح ما أفسده سوء التصرف والتسرع في إشعال أزمة في الخليج. ومع ذلك فقد ابتدأ تيلرسون جولته بتصريح سلبي إذ قال بأنه لا توجد بوادر لانفراج أزمة الخليج قريبا وأنها تحتاج إلى وقت. ومهما كان من أمر فالخليج منذ نهاية ستينات القرن الماضي وحين تخلت بريطانيا عن قواعدها العسكرية وأنشأت فيها إمارات وسلطنات تابعة لها، وهي عرضة للابتزاز والنهب والهيمنة المباشرة. ولا تزال تعتبر بقرة حلوباً لمن يملك أدوات الحلب.
وأمريكا وإن كانت قد وضعت يدها على كثير من خيرات الخليج إلا أنها تريده كله قاعدة لها ومصدرا ماليا لا يكاد ينضب. وفي منتصف الثمانينات من القرن الماضي كتب وليام سافير السفير الأسبق لأمريكا في السعودية في كتابه أمن الخليج الفارسي ما نصه "من يسيطر على الخليج وثرواته يستطيع أن يتحكم بمقدرات العالم". فدويلات الخليج العربي قطر والكويت والإمارات والبحرين وعمان تتربع على مئات المليارات من براميل النفط والغاز، ودبي أصبحت مركزا تجاريا عالميا تمر منه مئات المليارات من الدولارات الناشئة عن التجارات المحرمة كالمخدرات والسلاح. وكل هذا يجعل أمريكا تنظر بعين فاحصة على هذه المنطقة لتكون تحت سلطتها المباشرة وتزحزح بريطانيا عنها. وما أزمة الخليج التي حركتها أمريكا إلا عملا من أعمال محاولة السيطرة هذه. ولما لم تأت الرياح بما تشتهي السفن، ولما كانت المنطقة كلها مشتعلة سواء في العراق أو اليمن أو سوريا، فإن أمريكا نفسها التي أشعلت الفتيل في الخليج تحاول إخماده قبل أن يصبح لهيبه في اتجاه أمريكا وتبوء محاولاتها بالفشل وتنكشف خططها ولا يعود بمقدورها المحاولة مرة أخرى.
والحقيقة أن ما يجري في الخليج اليوم يمثل قمة التشرذم والضعف الذي أصاب المسلمين عامة والعرب خاصة منذ زوال دولة الخلافة العثمانية. فقد نشأت كيانات هزيلة جدا بالرغم مما تملكه من ثروات طائلة. ولا تملك هذه الكيانات من أمرها شيئا. فحكامها وأمراؤها ليسوا إلا نواطير لبريطانيا وإذا قدر لأحدهم أن يخرج عن خدمة التاج البريطاني فلا يكون إلا للسقوط تحت البسطار الأمريكي. فالأموال التي بين أيديهم ليست ملكا لهم، ولا إرادة لهم عليها. وقراراتهم ليست من بنات أفكارهم، وولاءاتهم ليست إلا لأسيادهم في لندن وإن جنحت لواشنطن أحيانا. وقد أصبح واضحا بدون أدنى شك أن مشكلة بلاد العرب والمسلمين ليست قلة المال والموارد خاصة إذا ما نظرنا إلى حال الخليج، بل المشكلة تكمن في ارتهان الإرادة السياسية لهذه الدول لتكون بيد أعدائها الذين لا يرقبون فيها إلا ولا ذمة. فالمال هنا في الخليج كثير، والموارد جمة، ولكن من بيده مفاتحها لا إرادة له. وبالتالي فلا نفع من هذه الأموال والموارد ما زالت الإرادة مرتهنة.
ونعود إلى زيارة تيلرسون الذي يريد أن يعيد الأمور إلى مجاريها حتى لا تفقد أمريكا ما كانت قد اكتسبته على مدى أعوام مضت. وعليه أن يوفق بين رغبات السعودية التي شجعتها أمريكا كثيرا ليكون للسعودية الدور الأبرز في قضايا الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وبين ما تمارسه قطر من دور رسمته لها بريطانيا يبدو أكبر من حجمها بكثير. وغاية ما يطمح له تيلرسون اليوم هو أن يمسح من الذاكرة القريبة أن أمريكا هي التي أججت الصراع وأنها هي التي أشعلت الفتيل، وتغدو أمريكا هي التي تحاول رأب الصدع ونزع فتيل الأزمة. وهذا هو الخداع والتدليس بعينه الذي ما فتئت أمريكا تمارسه منذ عقود، وقد رأيناه جليا في قضية فلسطين. فأمريكا تحول بين حل قضية فلسطين بأي شكل وهي التي تمسك بمفاتيح الحل، وفي الوقت نفسه تريد أن تظهر بأنها هي راعية السلام وهي من تحاول فرض الحلول، وهي التي تسوق هذا وذاك إلى المفاوضات التي لا طائل منها. وقد رأيناها كذلك في سوريا تصنع الحرب وتدعو للسلام وتصنع الإرهاب وتدعو لمحاربته وتدين الأسد وتعمل على تثبيته. وينخدع بها المخلصون الذين لا وعي لهم، ويمكّنها من كذبها وافترائها العملاء الذين باعوا أنفسهم رخيصة لها، ويقع في حبائلها شعب لا حول له ولا قوة.
وأمام هذا الواقع الأليم البغيض، لم يعد هناك مخرج من الضيق ومنفرج من الأزمات إلا أن تقوم قوة سياسية واعية ذات إرادة صلبة تستمد طاقتها وقوتها واستمراريتها من مبدأ لا عوج فيه، بحيث تستطيع أن تقف أمام كبرياء أمريكا وغطرستها، وأن تقدم للعالم نموذجا حقيقيا للحياة والسياسة والحضارة، يجعل من أنموذج أمريكا سخرية تاريخية، يودي بها إلى مهالك التاريخ. وحينها تقع أمريكا فريسة لحبل لفته على عنقها ونار نفخت هي فيها حتى أحرقتها فيصدق عليها قول من قال "يداك أوكتا وفوك نفخ".
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. محمد الجيلاني