السبت، 23 شعبان 1446هـ| 2025/02/22م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

عودة ترامب؛ إفراز لأزمة الرأسمالية المزمنة وفوضى الانهيار!

 

 

وُصِفت الليبرالية الجديدة بأنها "رأسمالية منزوعة القفاز"، وها قد سقط حتى القناع وانتهت الرأسمالية إلى حقيقتها النهائية التي أضحت معها طبقة الرأسماليين حيتان المال أعتى طغيانا وأشد عدوانية، وتمكنت طبقة اللصوص بالمطلق ليس من الاقتصاد وأنظمته وحسب بل ومن السياسة ودولتها والمجتمع وثقافته وحياته، وهكذا انتهت الحياة الغربية إلى الغاية الرأسمالية وحقيقة فلسفة المنظومة الرأسمالية من كونها تصميما رأسماليا لخدمة طبقة الرأسماليين ومصالحهم وتدار أخيرا من طرف الرأسماليين مباشرة من دون قفازات ولا أقنعة.

 

ولقد كان حفل تنصيب الرأسمالي ترامب رئيسا للدولة الرأسمالية الأولى أمريكا والحضور المكثف المُرَكَّز للرأسماليين الترجمة الصارخة لدخول الرأسمالية طورها النهائي في استلام رأسمالييها دفة الحكم لإدارة التوحش الرأسمالي وسياسة الغابة الرأسمالية بشكل مباشر. فالرأسماليون رغم الخراب الرأسمالي الذي أحدثته منظومتهم الرأسمالية وفلسفة توحشها وسياساتها المدمرة مصممون على ليبرالية افتراسهم وفلسفة تغولهم من أن الثروة كل الثروة حظهم ونصيبهم ولا شيء لغيرهم!

 

ثم هذا الخراب الرأسمالي الناجم عن فشل وإفلاس المنظومة الرأسمالية والتي هي الورم الخبيث الذي يجب استئصاله من حياة البشر، يتم تغليفه بأزمات المنظومة الدورية المزمنة (ركود اقتصادي، كساد، انهيار سوق الأسهم، أزمة الرهن العقاري، الأزمات المالية...)، وهذا التغليف لإفلاس وخراب المنظومة بأزماتها وأعراضها الجانبية هو للتعمية على حقيقة أنها هي الأزمة وأنها مستوطنة بالأزمات ومولدة لها، وأن المحاولات الفاشلة لإنشاء آليات لإدارة أزمتها هي نفسها دليل فاضح على فشل وإفلاس اقتصاد السوق في تنظيم نفسه بنفسه، وهو نسف تام لمبدأ الليبرالية الأول في تحرير السوق وقدرة السوق الغيبية على تنظيم نفسها ذاتيا وتنظيم اقتصاد المجتمع ميكانيكا بحسب مشيئة وإرادة السوق صنم الرأسمالية من دون أدنى تدخل أو شرط أو قيد، بل تم نسف خرافة السوق الليبرالية بتسلم الرأسماليين أنفسهم إدارة وتدوير المنظومة الأزمة!

 

أما اليوم وقد دخلت المنظومة الرأسمالية طور التعفن الأخير الذي يسبق التحلل والتفسخ، والحالة الأمريكية هي نموذجها الصارخ الفاضح متمثلة في طبقة رأسمالية موغلة في التوحش، وزاد من تغولها العولمة التي ابتكرتها الرأسمالية أواخر القرن الماضي لإشباع جشع رأسمالييها ما تطلب عمالة رخيصة في الخارج وتقليصا لعمالة الداخل ومعها نقل للمصانع الأمريكية إلى الخارج، وزاد من حدة الكارثة الرأسمالية توظيف التطور التكنولوجي في الاستغناء عن العنصر البشري فتفاقمت معضلة البطالة الرأسمالية ومعها فقر الأفراد، وتعاظم الشرخ العميق بين الرأسماليين وغناهم الفاحش وباقي الشعب المثقل بركام ديون أفراده، ثم المفارقة الرأسمالية السامة؛ فنمو ثروات الرأسماليين الفلكي يقابله الإفلاس المالي الفلكي للدولة فدين الحكومة الفيدرالية الأمريكية الفلكي بحسب صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية تجاوز ناتجها المحلي الإجمالي لسنة 2024 وبلغ 28 تريليون دولار، ما يكلف الحكومة الفيدرالية الأمريكية نفقات لخدمة ربا الدين بمقدار 892 مليار دولار للسنة المالية الحالية، عطفا على عجز الميزانية الذي قدر بمبلغ 1.9 تريليون دولار، مع تضخم وغلاء فاحش للسلع والخدمات ومعدلات غير مسبوقة للجباية والضريبة وكل هذا مصحوب بفقاعة المال الوهمي وأوراقه السامة المطبوعة بلا غطاء ولا سند، ثم مأساة المنظومة الأزمة في خرابها القيمي وعدمية الغاية وانحلالها الأخلاقي (الجندر وشذوذه، العنصرية، الجريمة...) وسحق لكرامة الإنسان والحلقة الأضعف والأكثر تضررا النساء، فالمرأة من منظور الرأسمالية هي مجرد حاجة للسوق الرأسمالية وقيمتها تعبر بثمن جاذبيتها الجنسية ومردود ذلك على الاقتصاد الرأسمالي؛ ...؛ انتهاء بتطاحن طبقات وحوش الرأسمالية وانقسام وتصدع المجتمع الحاد مصحوبا بأنانية مدمرة.

 

فهذا التعفن الحاد للمنظومة الأزمة وإفلاسها التام ثقافيا، لم بيق لها سوى إفراز قيئها الأخير طبقة رأسمالييها كحكام وحفرة قبرها، وترامب من ذلك القيء الرأسمالي للمنظومة الأزمة حتى وإن غُلِّف بذلك الغرور الرأسمالي الزائف ودُبِّج بذلك الخطاب الشعبوي الخادع المضلل في تصدير أزمة المنظومة لخارج المنظومة الأزمة.

 

فبعد استفحال معضلة الرأسمالية عملت المنظومة الأزمة على استنبات تيار شعبوي في الداخل الرأسمالي الغربي غايته تدوير الأزمة عبر تجيير غضب الجماهير الغربية وتذمر مجتمعاتها وإرهاصات التمرد لصالح استمرار المنظومة والإبقاء عليها، فعمد هذا التيار إلى ترحيل معضلة الرأسمالية الجذرية البنيوية إلى مشكلة عدو خارجي مناوئ ومشاكس يتهدد الأمن القومي الداخلي وطريقة ومستوى عيش الداخل، عطفا على تحويل إحباط وسخط الجماهير وصرف أنظارهم عن إفلاس وفشل المنظومة الرأسمالية إلى فساد وإفلاس الأدوات من الطبقة السياسية والنخبة الحاكمة وبيروقراطية المؤسسات، وكل هذا لحجب الرؤية عن فساد الرأسمالية ورأسمالييها أصل الأزمة. واعتمد رأسماليو المنظومة خطابا غرائزيا يثير مشاعر القومية والتعصب العرقي لدى جماهير الغربيين، وكان تسطيح القضايا واستسهال الحلول ووضع حلول مبسترة غير ناضجة لمشاكل معقدة سمة الخطاب السياسي الشعبوي، والهدف اختصار المسافات لِسَوْق الجماهير وإخماد نيران تذمرها وتمردها.

 

فما يجري في الداخل الرأسمالي ليس نمطا جديدا من الرأسمالية، ولكنه الطور النهائي من التعفن الرأسمالي وترامب أحد إفرازاته وتوليد خالص لأزمة الرأسمالية، فترامب حتى وإن فاز بترشيح من الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة فهو لا يعتبر من المنتمين سياسيا للحزب، فهو حقيقة مرشح الرأسمالية وتقدم كبديل عن النخبة السياسية الفاسدة وبيروقراطية المؤسسة العميقة المسيطرة.

 

فهذا التيار الرأسمالي المستنبت سواء سمي شعبويا أو محافظا أو يمينيا متطرفا، فهو إفراز رأسمالي خالص من داخل الرأسمالية المأزومة لخدمتها وإعادة تدوير وتدبير أزمتها، وجوهر سياسة هذا التيار هو تصدير الأزمة لخارج المنظومة الأزمة، عبر ذلك العدو الخارجي المفترض الذي يهدد الأمن القومي وطريقة ومستوى العيش، وللإسلام النصيب الأوفر من هذا العداء بحكم الحقد الصليبي الدفين ويأخذ صور الإرهاب والتطرف العنيف والإسلام الراديكالي والإسلام السياسي والأصولية الإسلامية، والعدو الصيني ثم بعده الهجرة والمهاجرون... فحضور الخارج كعدو وتصويره للجماهير الساخطة كتهديد للأمن القومي والنقاء العرقي وطريقة ومستوى العيش هو الركيزة السياسية لهذا التيار، الذي يعتمد خطابا تبسيطيا عاميا في التعامل مع المزاج السياسي للجماهير الساخطة التي فقدت الثقة في النظام ودولته وحكامه وساسته. وهي استراتيجية سياسية بعد تآكل واستنزاف الآليات التقليدية للرأسمالية، للتنفيس عن الإحباط المتصاعد والاحتقان المتنامي ضد المنظومة الأزمة، فترامب الرأسمالي يخاطب الجماهير على أنه من عامتهم ويحمل همومهم ويعيش مآسيهم من برجه العالي في قصره بولاية فلوريدا!

 

فترامب ليس ابتكارا لحل الأزمة ولكنه إفراز رأسمالي لتدوير المنظومة الأزمة، التي انتهت إلى الدولة الشركة والرأسمالي المقاول هو رئيسها التنفيذي، وهذا التعفن الرأسمالي الأخير أصبحت معه قضايا المجتمع وأفراده في حكم الساقطة تشريعيا وخارج اهتمامات الدولة الشركة. فترامب الرأسمالي المقاول بعد أن تولى الرئاسة استغل منصبه وصلاحياته والقرارات التنظيمية المنوطة به، وأصدر عملته الرقمية "ترامب دولار" وَخوَّلَه منصبه من جني أرباح خيالية في بضعة أيام تجاوزت قيمتها السوقية أكثر من 10 مليار دولار، ولم يقف عند هذا الحد بل تبعته زوجته وأطلقت عملتها الميمية الخاصة بها ووصلت قيمتها السوقية لنحو مليار دولار خلال يومين، ففي الدولة الشركة يعتبر الرئيس المقاول هو مساهمها الأول وله الحصة الكبرى من الأرباح!

 

هذا هو الوضع الرأسمالي المتعفن الراهن، فالرأسمالية غير معنية بسياسة المجتمع بل تدير تغول شركتها وتوحش رأسمالييها في عمى تام عن المجتمع وقضاياه، ومنطق السوق ومعيار الربح والخسارة هو منطق الدولة الشركة وترامب هو رئيسها المقاول في الوقت الراهن.

 

والجديد مع الرأسمالي ترامب كرئيس هو سعيه لإعادة هيكلة الدولة الأمريكية لتنسجم وتتناغم مع أهداف وغاية الشركة عبر تقليص بيروقراطية الإدارة وتقليص نطاق الدولة الفيدرالية من خلال خفض أعداد موظفيها واختبار حدود السلطة التنفيذية، فلقد أعلن بعد توليه مباشرة عن إنشاء مجموعة استشارية تهدف إلى تنفيذ تخفيض شامل لقوة العمل في الحكومة وإلغاء بالجملة للوكالات الحكومية، وفي يومه الأول أقال أكثر من 1000 موظف حكومي ويقدر عدد المهددين بالفصل وفقا للأوامر التنفيذية المحتملة ما لا يقل عن 50 ألف موظف، وهؤلاء هم من يطلق عليهم ترامب بيروقراطية الدولة العميقة، واختار لتنفيذ مهمته الرأسمالي إيلون ماسك وعينه على رأس وزارة الكفاءة الحكومية وأسنده برأسمالي آخر وهو فيفيك راماسوامي، وصرح ترامب في بيان تعيينهما "هذان الأمريكيان الرائعان سيمهدان الطريق معا أمام إدارتي لتفكيك البيروقراطية الحكومية وتقليص الإجراءات التنظيمية... وهو أمر ضروري لحركة إنقاذ أمريكا".

 

فمنطلقات ترامب السياسية محكومة بغاية الشركة الرأسمالية وقواعد السوق الرأسمالية ومعايير الربح والخسارة، أما الاعتبارات السياسية والأمنية والجيوستراتيجية فتكاد تكون هامشية، فمنطق الشركة قصير المدى والرأسمالي المقاول همه العائد المادي المنظور في عمى عن العواقب الأمنية والسياسية والجيوستراتيجية، فهو ينظر للساحة الدولية كسوق ويُعَيِّر العلاقات الدولية بمعيار الربح والخسارة، والهدف هو جني العائد في زمن قياسي، فالسياسة بالنسبة لترامب هي مجرد صفقات تجارية واقتصادية.

 

فترامب يسعى لفرض تغول الدولة الشركة على العلاقات الدولية، فيبتز دول الهامش دويلات سايكس بيكو في منطقتنا، وعلى حكامها العملاء الدفع مقابل استمرارهم على كرسي العمالة (غر آل سعود، ابن سلمان تعهد بدفع 600 مليار دولار)، كما ألزم اليابان وكوريا الجنوبية بتحمل تكاليف خضوعهما لأمريكا (تمويل سوفت بنك الياباني لمشروع ترامب "ستارغيت" لإنشاء بنيات تحتية متطورة للذكاء الاصطناعي في أمريكا)، وابتزاز أوروبا فقد أعلن ترامب عزمه فرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبي، وعلل ذلك بعجز ميزانه التجاري مع أوروبا والذي يقدر بـ300 مليار دولار، كما أفصح عن هدفه من ذلك وهو دفع الأوروبيين لشراء الغاز والبترول الأمريكي بل وحتى آبارهما، وفرض رسوما جمركية على كندا والمكسيك والصين، والتي دخلت حيز التنفيذ، وعللها باختلال الميزان التجاري مع كل من كندا والمكسيك وعجزه التجاري الذي بلغ مع كندا 40 مليار دولار ومع المكسيك 162 مليار دولار، أما عن الصين فقال مرشح ترامب لمنصب وزير التجارة "إن الصين يجب أن تواجه أعلى المعدلات" وأضاف "وأن أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية تعامل الصناعات الأمريكية بشكل غير عادل أيضا".

 

هي الرأسمالية انتهت إلى منطق توحشها الليبرالي الأول "حرب الكل ضد الكل"، منطق الغابة الرأسمالية في البقاء للأقوى، وترامب اليوم هو الترجمة العارية لهذه الحقيقة الرأسمالية، فالسوق الرأسمالية لا تكترث بالفرد وحاجاته ولا المجتمع وقضاياه ولا تعنيها المبادئ والقيم والأخلاق بل السوق مهتمة بالمستهلك وعائد أرباحه. فالتغول الرأسمالي وصل إلى منتهى تعفنه، وانتهى إلى صناعة الأزمة لإدارة وتدوير الأزمة وصناعة التوتر للتطبيع مع الأزمة، ومعها منطق القوة العارية في إدارة العلاقات الدولية السياسية، وهذه السياسات الرعناء في إدارة الدولة بمنطق الشركة والتصريحات الصاخبة هي للابتزاز من أجل تخفيض التكاليف ورفع العائدات.

 

فهذا التوتير للعلاقات الدولية وهذه القوة العارية في إدارة العلاقات الدولية بإهانة الآخرين، وهذا الغرور الأرعن وجنون العظمة الزائف في التعامل بمنطق الإمبراطورية الرأسمالية وحاكمها الرأسمالي الإمبراطور مع انتفاء وانعدام مقومات الإمبراطورية في الدولة الأمريكية المفلسة. فهذا الاصطدام الأهوج الأرعن لترامب كرأسمالي شرس مع قضايا العالم، وتركيزه على تحقيق المنافع المادية الاقتصادية لطبقته الرأسمالية الأمريكية على حساب الآخرين، وتغليف كل ذلك بشعارات "أمريكا أولا" و"لنعد إلى أمريكا قوتها" و"هذه فرصتنا الأخيرة لإنقاذ أمريكا"، فهذا الاصطدام الأهوج الذي يفتقر للرؤية السياسية الجيوستراتيجية المتبصرة هو إفراز الرأسمالية المأزومة، ويؤدي إلى عكس أهدافه في السيطرة والهيمنة، وقد كان اختبار هذه السياسة في إدارة ترامب السابقة ونتائجها الكارثية في تعاطيه مع الملف الصيني، فقد أدت سياسة العقوبات التي انتهجها ضد الصين فيما يتعلق بالتكنولوجيا الرقمية إلى نتائج عكسية، فقد دفعت العقوبات الصين لصناعة وتطوير تكنولوجيتها الخاصة واستغنائها عن التكنولوجيا الأمريكية، الأمر الذي أدى لاستقلالية الصين تكنولوجياً وقوض التأثير والنفوذ التكنولوجي الأمريكي على الصين. كما أن هذا الصدام وكسر التحالفات دون رؤية جيوستراتيجية سوى العائد المادي الاقتصادي من شأنه الدفع نحو تشكيل أحلاف بديلة مناوئة، فسياسات ترامب الرعناء ومنطق القوة العارية في إدارة العلاقات الدولية، سيدفع باتجاه توطيد التحالف الصيني الروسي الكوري الشمالي، كما أن تصدع التحالف الأمريكي الأوروبي وتصاعد التوتر سيلجئ الرأسمالية الأوروبية إلى السوق الصينية لتصريف أزمتها الخاصة، ما سيدفع بتعزيز العلاقات بين دول الاتحاد والصين، وكذلك البحث عن بدائل أمنية أوروبية خارج إطار الحلف الأطلسي الأمريكي، كما أن ابتزاز اليابان المهين يجعل الارتباط بالمصالح الأمريكية مقامرة بالغة الخطورة، وهذه السياسة الهوجاء تقوض قيادة أمريكا للموقف الدولي وتحفر قبرها وقبر الرأسمالية الغربية معها.

 

أما بالنسبة للجغرافية الإسلامية فلا ينظر لها الأرعن ترامب إلا كأرض للنهب وحكامها العملاء موضع إذلال فهو الآمر الناهي وعليهم الانصياع وهو الجابي وعليهم الدفع، وكل ذلك العمى الجيوستراتيجي يغذيه حقده الصليبي الأسود ضد الإسلام وأمته، وفي هذا العمى مقتله فهذه الإهانة الرعناء لأمة ما انفكت براكين تمردها الموضعية على المنظومة الاستعمارية تنفجر (انتفاضة البلاد العربية، ثورة الشام، عملية طوفان الأقصى...) وكل هذه الانفجارات الموضعية هي إرهاصات ومقدمات للانفجار الكبير، والأرعن ترامب هو عنصر مساعد على ذلك الانفجار. فهذا الأرعن في عماه الجيوستراتيجي لا يرى في غزة إلا منتجعا سياحيا يجب احتلاله وطرد أهله منه والاستيلاء على شواطئه الغنية بالغاز ويغريه بذلك ذلة وخنوع حكام الخيانة والعار، وهذا العمى يجعله لا يرى أن أرض فلسطين تحطمت عليها مشاريع أمريكية عدة حتى عدها الاستراتيجيون الغربيون أخطر وأعقد قضايا السياسة الدولية، فأن يحسبها الأرعن صفقة تجارية وأن يوافق عليها خونة الحكام فليست بقضية ولكن القضية هي في أمة ترى في المغضوب عليهم محل انتقام واستئصال على اغتصاب أطهر وأقدس أراضيها وقتل أبنائها، أما وإبادة غزة باتت جزءا من عقلها وقلبها فلن يكون لكيان المغضوب عليهم قرار في بلاد المسلمين حتى ولو وقع كل خونة الأرض. فسياسات ترامب الرعناء بالنسبة لمنطقتنا تعني مزيدا من تأزيم الأوضاع ورفع لمنسوب الاحتقان لدى الأمة وتغذية لنيران ثورتها ضد الاستعمار وفتح المدارك والآفاق أمام مشروع الإسلام العظيم البديل المخلص للأمة وللبشرية معها.

 

أما على مستوى الداخل فهذه الولايات التي نخرها سوس الانقسام، ستتفاقم معضلتها ويتعمق انقسامها وترامب كان وسيظل عنصرا يثير انقسامها الحاد، أما ما حدث في حفل التنصيب وحضور الفرقاء المتشاكسين فكان مجرد واجهة لتأثيث المشهد وتظاهر الكل بالمصالحة، والكل يده على الزناد للانتقام من خصمه العدو. ولقد بلغ عمق الانقسام حدا دفع الرئيس المنصرف جو بايدن لاستخدام سلطاته بشكل سافر فاضح بإصدار عفو عن أفراد أسرته وعدد من موظفي الإدارة خشية من انتقام ترامب. وذلك الذي كان فعقب تنصيبه قال ترامب "سألغي نحو 80 قرارا تنفيذيا مدمرا ومتطرفا اتخذتها الإدارة السابقة".

 

أما ذلك التصدع والانقسام والتصادم على مستوى مركز ونواة الرأسمالية فهو يتوسع ويتمدد ولا ينحصر بل تزداد حدته وشراسته مع ترامب، ومع عودة ترامب وحصوله على ولاية رئاسية ثانية، عطفا على تأمينه لأغلبية جمهورية موالية بمجلسي النواب والشيوخ، بات كبار رأسماليي التكنولوجيا على يقين بأن مناطحة ترامب خلال فترة رئاسته مقامرة خطيرة وجِدُّ مكلفة فقد اختبروا بعضا من ذلك في رئاسته السابقة، فقد استخدم ترامب كل سلطاته في لجم وتحجيم طبقة رأسماليي التكنولوجيا خلال ولايته السابقة، فقد سعى لتقسيم وتفتيت شركة جوجل ولاحق قضائيا مؤسس فيسبوك وأطلق عدة تحقيقات في إطار مكافحة الاحتكار ضد شركات أمازون وآبل وجوجل، وامتدت حربه حتى وقت قريب من انتخابات 2024 عبر رفع دعاوى قضائية ضدهم. وهكذا وخشية من الانتقام سارعت شركات التكنولوجيا الكبرى إلى تقديم التهنئة لترامب بفوزه وحضور حفل تنصيبه منحنية أمام العاصفة لعلها تأمن انتقامه (الرأسمال جبان بحسب العرف الرأسمالي).

 

لكن الرأسمالي ترامب الذي استعاد السلطة اتخذ خطا آخر في إدارة الصراع مع طبقة رأسماليي التكنولوجيا، وهذا الخط يعتمد الاختراق والاستقطاب وإعادة التمركز وإنشاء بنيات تكنولوجية جديدة لإضعاف نفوذ طبقة رأسماليي التكنولوجيا وشركاتهم الكبرى عبر تفكيك مركز ثقلهم. ومن ذلك ما جرى من تحالف مثير بين ترامب وماسك هذا الأخير الذي يعتبر رأسماليا هجينا نتاج زواج التكنولوجيا والصناعة (شركة تسلا للمركبات الكهربائية وسبيس إكس لتصنيع المركبات الفضائية وهاتان الشركتين لماسك لهما ارتباط بالمجمع العسكري لصناعة الأسلحة ولهما عقود مع ناسا ووزارة الدفاع الأمريكية وتمتلكان ما لا يقل عن 15.4 مليار دولار من العقود الحكومية ما يعني تقاطع مصالح مع الرأسمالية التقليدية)، وقد ساعد هذا الزواج الهجين على تقاطع المصالح بين ترامب وماسك وساعد على الاختراق والاستقطاب.

 

الأمر الآخر الذي يسعى ترامب لإنجازه هو تفكيك مركز الثقل لطبقة التكنولوجيا بوادي السليكون عاصمة التكنولوجيا بولاية كاليفورنيا، عبر إنشاء مركز بديل بولاية تكساس عاصمة الرأسمالية التقليدية (النفط والغاز، الزراعة، الصناعات الحربية، الفضاء، صناعة الطيران، صناعة الحواسيب، صناعة الأدوية...) للتحكم في المركز والقرار. ومشروع ترامب "ستارغيت" الذي أعلن عنه بعد توليه يهدف إلى إنشاء بنيات تحتية متطورة للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة مقره تكساس، والمشروع من تمويل مجموعة "سوفت بنك" اليابانية بقيمة 500 مليار دولار، أما التشغيل التكنولوجي فموكول للشركة الأمريكية "أوبن آي" هذه الأخيرة التي يعتبر ماسك أبرز مؤسس لها سنة 2015 مع سام ألتمان، وأوضحت شركة "أوبن آي" أن "سوفت بنك" سيتولى الجانب المالي، بينما تشرف "أوبن آي" على العمليات التشغيلية. فمشروع ترامب "ستارغيت" يهدف في نقل مركز الثقل التكنولوجي إلى عاصمة الطبقة الرأسمالية التقليدية بولاية تكساس للتحكم في التمويل والقرار ومن ثم تحجيم نفوذ وتأثير شركات التكنولوجيا الكبرى بوادي السليكون.

 

فنهج ترامب عبر سياسة الرسوم الجمركية وتقييده التجارة الخارجية، وتعزيز مشاريع إنتاج النفط والغاز وصناعة الطاقة الأمريكية، ومشروع "ستارغيت" كلها لخدمة طبقته الرأسمالية، واليوم هذه الطبقة رأسماليُّها الكبير ترامب هو من يدير الدولة الأمريكية لخدمة مصالح هذه الطبقة وإدارة ذلك التطاحن الرأسمالي العفن، ونتن انقسامه لا يزال حاضرا بقوة وشراسة.

 

ما يعني أن تلك القرية الرأسمالية الظالم أهلها ستزداد تعفنا ونتنا وتفككا وانقساما فهي مرشحة للفناء وليس للبقاء وهي محل هدم وليست محل بناء، وترامب معول هدمها. إنها المسألة الغربية وقد استفحل وفاض تعفن ونتن منظومتها ودولها وحضارتها وحياتها، وما ترامب إلا إحدى إفرازاتها النتنة وأورامها الخبيثة، وإن قضية الغرب طالت وتمادت، والمستقبل حتما ليس ما سيصنعه ترامب فقد صممه الغرب الكافر الرأسمالي هاوية وقبرا سحيقا وما ترامب إلا أحد حفاريه، ولكن المستقبل هو ما ستصنعه أمة الإسلام أمة الوحي والهداية والرشد بقيادة أبنائها الأخيار الأطهار حملة دعوة الإسلام العظيم، لإقامة دولة الوحي تصميم الحكيم العليم؛ خلافة النبوة، لتطهير الأرض من رجس الرأسمالية الكافرة الغاشمة وتعلي على أنقاضها خلافة الإسلام الراشدة على منهاج النبوة، حاكمها ومحكومها لا يبغون فسادا في الأرض ولا علوا ولا ظلما ولا عدوانا ولا طغيانا، كلهم عباد لرب الأرباب خاضعون مستسلمون لحكمه وسلطانه يرجون رحمته ويخافون عذابه فكلهم عيال الله وعبيده، فحيهلا إلى الإسلام العظيم وخلافة رحمته.

 

﴿قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ

 

 

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

 

مناجي محمد

 

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع