- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
علمنة التربية وسبيل النجاة
لا يخفى على أحد ما وصل إليه حال شبابنا اليوم جراء تدخل الأمم المعادية وتغلغل أفكارها المسمومة التي عملت جاهدة لسلخهم عن دينهم والقضاء على هويّتهم الإسلاميّة، فسهل عليها دمغجتهم بعد أن تمكنّت من إسقاط دولتهم وطمس حضارتهم وإضعاف فهمهم لدِينهم. ومن بين هذه الأفكار المشؤومة - مع أنّ كل ما جاء منهم مشؤوم - هو علمنة الأوساط التربويّة والتعليميّة من خلال إدراج مفاهيم ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب!
فالعلمانية تُدرَّس لأبنائنا ويروّج لها المسؤولون العملاء، على أنها تابعة للتطور والعلمنة وتساهم في ارتقاء الشعوب والالتحاق بركب سيدهم الغربي، في حين إنها ترجمةٌ للمصطلح الغربيّ السامّ "اللادينيّة" التي تعني بوضوح فصل الدين عن الحياة، أي إبعاد دينهم الإسلامي عن جميع أمور حياتهم؛ عن الدولة والمجتمع والقوانين والتشريعات وما يرتبط بها من التعليم والإعلام وسائر قطاعات الشأن العام، مع الرمي بآيات الله عرض الحائط!
قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾ وقال: ﴿إنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾.
هذه بعض آيات الله الواضحة والصريحة، التي تنص على ضرورة التمسّك بديننا والعَمَل بما جاء فيه وتحكيمه في جميع مفاصل الحياة، وليس العكس!!
وإنَّ مناهج التعليم ووسائل الإعلام قامت أساساً منذ حقبة الاستعمار على محاولة تطبيع أبنائنا بالحرام واستمراء العيش به دون رقيب منذ الصِّغر! فـ"العلم في الصِّغَر كالنّقش على الحَجَر" كما في المثل العربي القديم، وبدل أن يكون ذلك بالإسلام، كان بالعلمانية، فأعادوا تشكيل ثقافة أبنائنا وصياغة شخصياتهم وفق الثقافة الغربيّة واقتداء بالشخصيّة الغربيّة.
يعني أنّ ما نراه اليوم من ضياع فكري وفراغ روحيّ في شبابنا، ومختلف مظاهر الفساد والإفساد؛ من إدراج أنواع المخدرات داخل المؤسسات التربوية وتفشّي ظاهرة العنف والكلام البذيء في البرامج الإعلامية الموجهة للأسر... كل ذلك وأكثر جرّاء الاحتكام إلى الاتفاقيات الدولية وقيام النظم والتشريعات على العلمانية وبالتالي إقصاء الكتاب والسنّة من دواليب حياة المسلم!
والسؤال هنا كيف لمسلم يعتنق عقيدة لا إله إلا الله أن يحتكم لغيره ويلتجئ إلى معالجات مشاكله ممّن لا يزال يتخبّط في دياجير ظلم نظامه ولم يجد حلولا لمشاكله بل وصدّر تعاسته إلينا؟!
كيف لنا أن نُعرِض عن ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾؟! وقد عالج الإسلام مشاكل الإنسان بوصفه إنسانا، صغيرا كان أم كبيرا، ذكراً كان أم أنثى، فوضع من أجله أحكاما شرعيّة تحميه وتحمي علاقته بالآخر. فاهتمّ بالأطفال ورعايتهم قبل أن يولدوا إلى أن يشبّوا بل إلى أن يشيبوا. وحماهم بآيات حكيمة جعلت لوالديهم حقوقاً عليهم حتى قبل أن يُولدوا، وحثّ على حسن رعايتهم والإحسان إليهم، كل ذلك قبل أن يوجب على الأبناء البرّ بآبائهم.
ففيما رواه الطبراني، قال رسول الله ﷺ: «وَبِرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ»، كما روي عن عمر رضي الله عنه أن رجلا جاء إليه بابنه، فقال: إن ابني هذا يعقني، فقال عمر رضي الله عنه للابن: "أما تخاف الله في عقوق والدك؟"، فقال الابن: يا أمير المؤمنين، أما للابن على والده حق؟ قال: "نعم، حقه عليه أن يستنجب أمه، يعني لا يتزوج امرأة دنيئة لكيلا يكون للابن تعيير بها، وحسن اسمه ويعلمه الكتاب". فقال الابن: فوالله ما استنجب أمي، ولا حسن اسمي، سماني جُعْلا، ولا علمني من كتاب الله آية واحدة. فالتفت عمر رضي الله عنه إلى الأب وقال: "تقول ابني يعقني! فقد عققته قبل أن يعقك".
فالتربية مسؤولية عظيمة على عاتق الآباء أوصت بها شريعة الرحمن وأكّدت عليها لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾. وقوله ﷺ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَهُ؟ حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ». وقوله أيضا عليه الصلاة والسلام: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»، لأهميتها في ازدهار الأمم وحضارتها. فهي الطريق الموصلة إلى بناء العقول وتهذيب الأنفس وتنمية الحِسّ والرقيّ بالميول. والقرآن العظيم هو الذي أخرج لنا جيلا متماسكا وشبابا عظماء وقيادات فذّة، لم نسمع فيهم عن تذبذبات نفسية ولا اضطرابات سلوكيّة ولا خلل فكري... لما وصفه الله تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾.
للإسلام إذن طريقته في تربية الأطفال وتوعية اليافعين وتبصير الشباب. وقد جعلهم من الأولويّات فلم يتركهم لأنفسهم ولا لِتسلّط والديهم بل أحاطهم جميعا بسياج قويّ من الأحكام والآداب حتى يظلوا جميعا مصونين من عبث العابثين وخيانة الخائنين فينشؤوا جميعا نشأةً صالحة تقوم على تقوى الله سبحانه وتعالى، يتعاونون على طاعته ويتنافسون في ذلك.
وأهمّ ما في الشريعة أن المسؤولية لم تقع على الوالدين أو المربّين فقط، مثلما يحدث اليوم فتُشار أصابع التهم لتقصير الأم وخيانة الأب دون إدراك لمسبب الأزمات وصانع العبث! بل جعل أحكاما خاصّة بالدولة فأوجب عليها رعاية الأطفال والتدخل في تربيتهم وتوفير البيئة المناسبة للمحافظة عليهم، وبالتالي فإن للدولة مسؤولية في تربية الأطفال ضمن المفهوم الشامل للرعاية، فالرعاية هي العناية والاهتمام والحفظ وتولي الأمر وتدبيره وكل ما يندرج تحت ذلك!
ويكفي أن نسلط الضوء مثلا على مسألة تحديد سنّ الطفل، لندرك أهميّة دور الدولة وتشريعاتها في بناء شخصية الطفل. ففي النظام العلماني حُدِّد سنّ الطفل في اتفاقية ما يسمى "حقوق الطفل"، بالثامنة عشرة عاما، وإن كان بالغا عاقلا وراشدا قادرا على القيادة، في حين إن إسلامنا العظيم حدّد السنّ منذ الولادة حتى البلوغ لقوله تعالى: ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ وقال: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ وهذا يعني أنه حتى سِنّ البلوغ يُراعى في الطفل رفع التكاليف الشرعيّة عنه والاكتفاء بحُسن رعايته وإيجاده وسط بيئة طيبة لا تناقُض فيها بين بيته وخارجه!
إنّ مؤسستي التعليم والإعلام في التشريع الإسلامي وُضعتا لخدمة دين الأُمّة والمحافظة عليه، ومن بينها التربية... فحقّ الطفل في التعليم هو أن ينشأ على الإسلام ويُربّى على العقيدة ويتعلّم الأحكام الشرعيّة عِوض الخوض في اللغات الأجنبيّة وفي التعاليم المنعزلة عن الحَياة والمجرّدة من كل مقوّماته!
إن إيجاد الشخصية الإسلامية المتكاملة وبناء مفاهيم الطفل عن خالقه وبالتالي ترسيخ الوازع العَقَدي في نفوس الأبناء هو الذي يجعلهم مهيّئين لعبادة الله تعالى وتنفيذ شرعه، ومن ذلك البِرّ بالآباء والصلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة.
وتسخير كل أجهزة الدولة للوقوف على صيانة مفهوم التربية وتكريسه في المجتمع هو من عمل الدولة أيضا، بل يُمنَع ويُعاقب صاحب الصلاحية إذا أخلّ أو امتنع أو دعا إلى ما يعكّر صفو الحياة الإسلامية وسلامة الأبناء. فالإعلام بشتّى وسائله يقوم أساساً على تهيئة الطفل ليكون عنصرا نافعا في بناء مجتمعه من خلال غرس العقيدة الإسلامية ونشرها وتزويد الطفل بالقيم والمثل العليا وإكسابه المعارف والمهارات المفيدة لمزيد تنمية قدراته فيساهم في بناء وتطوير دولته الإسلاميّة اقتصاديا وعسكريا وسياسيا وعلميا.
نكتب عن مفهوم التربية في الإسلام، وكلنا أسف وحسرة على حالنا اليوم، الذي يستوجب قلع النظم الفاسدة واستبدالها، لتتغير الرسالة التعليمية والتربويّة ونقتعد من جديد ذروة سنام المجد ونقود البشرية جمعاء بعلماء وقادة لم يبلغوا بعد سنّ الثامنة عشرة!!
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
زينب الدجبي