- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح92) تَبَنِّي الأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّانِيَةِ وَالتِّسعِينَ, وَعُنوَانُهَا: "تَبَنِّي الأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الثَّالِثَةِ وَالثَّمَانِينَ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: "لَقَدْ كَانَ المُسْلِمونَ في عَصْرِ الصَحَابَةِ يَأْخُذُونَ الأَحْكَامَ الشَرْعِيَّةَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الكِتَابِ والسُنَّةِ، وكَانَ القُضَاةُ حِينَ يَفْصِلُونَ الخُصوماتِ بَيْنَ الناسِ يَسْتَنْبِطُونَ بِأَنْفُسِهِمُ الحُكْمَ الشَرْعِيَّ في كُلِّ حَادِثَةٍ تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ، وكَانَ الحُكَّامُ مِنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ إِلَى الوُلاةِ وغَيْرِهِمْ، يَقُومُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِاسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ لِمُعَالَجَةِ كُلِّ مُشْكِلَةٍ مِنَ المَشَاكِلِ تَعْرِضُ لَهُمْ أَثْنَاءَ حُكْمِهِمْ، فَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ وشُرَيْحٌ كَانَا قَاضِيَيْنِ يَسْتَنْبِطَانِ الأَحْكَامَ ويَحْكُمَانِ باجتهادهِمَا، وكَانَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ وَالِياً في أَيَّامِ الرَسُولِ يَسْتَنْبِطُ الأَحْكَامَ ويَحْكُمُ في وِلايَتِهِ باجتهادهِ، وكَانَ أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ في خِلافَتِهِمَا يَسْتَنْبِطَانِ الأَحْكَامَ بِأَنْفُسِهِمَا ويَحْكُمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الناسَ بِمَا يَسْتَنْبِطُهُ هُوَ، وكَانَ مُعَاوِيَةُ وعَمْرُو بْنُ العَاصِ والِيَيْنِ، وكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَنْبِطُ الأَحْكَامَ بِنَفْسِهِ ويَحْكُمُ الناسَ في وِلايَتِهِ بِمَا استنبطهُ باجتهادهِ، ومَعَ هذَا الاجتهادِ لَدَى الوُلاةِ والقُضَاةِ، فَقَدْ كَانَ الخَلِيفَةُ يَتَبَنَّى حُكْماً شَرْعِيّاً خَاصّاً يَأْمُرُ الناسَ بالعَمَلِ بِهِ، فكَانُوا يَلْتَزِمُونَ العَمَلَ بِهِ ويَتْرُكُونَ العَمَلَ بِرَأْيهِمْ واجتهادِهِمْ، لأَنَّ الحُكْمَ الشَرْعِيَّ أَنَّ أَمْرَ الإِمَامِ نَافِذٌ ظَاهِراً وبَاطِناً، ومِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَبَنَّى إِيْقَاعَ الطَلاقِ الثَلاثِ واحِدَةً، وتَوْزِيعَ المالِ عَلَى المُسْلِمينَ بالتَسَاوِي مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى القِدَمِ في الإِسْلامِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَاتَّبَعَهُ المُسْلِمونَ في ذَلِكَ، وسَارَ عَلَيْهِ القُضَاةُ والوُلاةُ. ولَمَّا جَاءَ عُمَرُ تَبَنَّى رَأْياً في هاتَيْنِ الحادِثَتَيْنِ خِلافَ رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَلْزَمَ وُقُوعَ الطَلاقِ الثَلاثِ ثَلاثاً، وَوَزَّعَ المَالَ حَسَبَ القِدَمِ والحَاجَةِ بالتَفَاضُلِ لا بالتَسَاوِي، واتَّبَعَهُ في ذَلِكَ المُسْلِمونَ وحَكَمَ بهِ القُضَاةُ والوُلاةُ. ثُمَّ تَبَنَّى عُمَرُ جَعْلَ الأَرْضِ الَّتِي تُغْنَمُ في الحَرْبِ غَنِيمَةً لِبَيْتِ المَالِ تَبْقَى في يَدِ أَهْلِهَا، ولا تُقَسَّمُ عَلَى المُحَارِبِينَ ولا عَلَى المُسْلِمينَ، فَاتَّبَعَهُ في ذَلِكَ الوُلاةُ والقُضَاةُ وسَارُوا عَلَى الحُكْمِ الَّذِي تَبَنَّاهُ، فكَانَ الإِجْمَاعُ (إِجْمَاعُ الصَحَابَةِ) مُنْعَقِداً عَلَى أَنَّ لِلإِمَامِ أَنْ يَتَبَنَّى أَحْكَاماً مُعَيَّنَةً، ويَأْمُرَ بالعَمَلِ بِهَا، وعَلَى المُسْلِمينَ طَاعَتُهَا ولَوْ خَالَفَتِ اجتِهادَهُمْ. والقَوَاعِدُ الشَرْعِيَّةُ المَشْهُورَةُ هِيَ (لِلْسُلْطَانِ أَنْ يُحْدِثَ مِنَ الأَقْضِيَةِ بقَدَرِ مَا يَحْدُثُ مِنْ مُشْكِلاتٍ) وَ(أَمْرُ الإِمَامِ يَرْفَعُ الخِلافَ) وَ(أَمْرُ الإِمَامِ نَافِذٌ ظَاهِراً وبَاطِناً) ولِذَلِكَ صَارَ الخُلَفَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَبَنَّوْنَ أَحْكَاماً مُعَيَّنَةً، فَقْدْ تَبَنَّى هَارُونُ الرَشِيدُ كِتَابَ (الخَرَاجِ) في النَاحِيَةِ الاقْتِصَادِيَّةِ، وأَلْزَمَ النَاسَ بالعَمَلِ بالأَحْكَامِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ".
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: بَعدَ أنْ فَصَّلَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ- رَحِمَهُ اللهُ - الحَدِيثَ عَنْ أنوَاعِ الأفعَالِ الصَّادِرَةِ عَنِ النَّبِيِّ r, وَأيِّ هَذِهِ الأفعَالِ يُتَأَسَّى بِهِ فِيهَا, وَأيِّهَا لا يُتَأَسَّى بِهِ فِيهَا, عَرَّجَ عَلَى مَوضُوعِ تَبَنِّي الأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ, وَذَكَرَ عَلَى ذَلِكَ أمثِلَةً مِنْ وَاقِعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ وَأرضَاهُمْ أجْمَعِينَ. وَيُمكِنُ إِجْمَالُ الأفكَارِ الوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الفَقْرَةِ بِالنُّقَاطِ الآتِيَةِ:
- كَانَ المُسْلِمونَ في عَصْرِ الصَحَابَةِ يَأْخُذُونَ الأَحْكَامَ الشَرْعِيَّةَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الكِتَابِ والسُنَّةِ.
- كَانَ القُضَاةُ حِينَ يَفْصِلُونَ الخُصوماتِ بَيْنَ الناسِ يَسْتَنْبِطُونَ بِأَنْفُسِهِمُ الحُكْمَ الشَرْعِيَّ في كُلِّ حَادِثَةٍ تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ.
- كَانَ الحُكَّامُ مِنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ إِلَى الوُلاةِ وغَيْرِهِمْ، يَقُومُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِاسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ لِمُعَالَجَةِ كُلِّ مُشْكِلَةٍ مِنَ المَشَاكِلِ تَعْرِضُ لَهُمْ أَثْنَاءَ حُكْمِهِمْ.
- كَانَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ وشُرَيْحٌ قَاضِيَيْنِ يَسْتَنْبِطَانِ الأَحْكَامَ ويَحْكُمَانِ باجتهادهِمَا.
- كَانَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ وَالِياً في أَيَّامِ الرَسُولِ يَسْتَنْبِطُ الأَحْكَامَ ويَحْكُمُ في وِلايَتِهِ باجتهادهِ.
- كَانَ أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ في خِلافَتِهِمَا يَسْتَنْبِطَانِ الأَحْكَامَ بِأَنْفُسِهِمَا ويَحْكُمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الناسَ بِمَا يَسْتَنْبِطُهُ هُوَ.
- كَانَ مُعَاوِيَةُ وعَمْرُو بْنُ العَاصِ والِيَيْنِ، وكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَنْبِطُ الأَحْكَامَ بِنَفْسِهِ ويَحْكُمُ الناسَ في وِلايَتِهِ بِمَا استنبطهُ باجتهادهِ.
- مَعَ هذَا الاجتهادِ لَدَى الوُلاةِ والقُضَاةِ، فَقَدْ كَانَ الخَلِيفَةُ يَتَبَنَّى حُكْماً شَرْعِيّاً خَاصّاً يَأْمُرُ الناسَ بالعَمَلِ بِهِ، فكَانُوا يَلْتَزِمُونَ العَمَلَ بِهِ ويَتْرُكُونَ العَمَلَ بِرَأْيهِمْ واجتهادِهِمْ.
- الحُكْمَ الشَرْعِيَّ أَنَّ أَمْرَ الإِمَامِ نَافِذٌ ظَاهِراً وبَاطِناً, وَمِنَ الأمثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ:
- أَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَبَنَّى إِيْقَاعَ الطَلاقِ الثَلاثِ واحِدَةً، وتَوْزِيعَ المالِ عَلَى المُسْلِمينَ بالتَسَاوِي مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى القِدَمِ في الإِسْلامِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَاتَّبَعَهُ المُسْلِمونَ في ذَلِكَ، وسَارَ عَلَيْهِ القُضَاةُ والوُلاةُ.
2- لَمَّا جَاءَ عُمَرُ تَبَنَّى رَأْيًا في هاتَيْنِ الحادِثَتَيْنِ خِلافَ رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَلْزَمَ وُقُوعَ الطَلاقِ الثَلاثِ ثَلاثاً، وَوَزَّعَ المَالَ حَسَبَ القِدَمِ والحَاجَةِ بالتَفَاضُلِ لا بالتَسَاوِي، واتَّبَعَهُ في ذَلِكَ المُسْلِمونَ وحَكَمَ بهِ القُضَاةُ والوُلاةُ.
3- تَبَنَّى عُمَرُ جَعْلَ الأَرْضِ الَّتِي تُغْنَمُ في الحَرْبِ غَنِيمَةً لِبَيْتِ المَالِ تَبْقَى في يَدِ أَهْلِهَا، ولا تُقَسَّمُ عَلَى المُحَارِبِينَ ولا عَلَى المُسْلِمينَ، فَاتَّبَعَهُ في ذَلِكَ الوُلاةُ والقُضَاةُ وسَارُوا عَلَى الحُكْمِ الَّذِي تَبَنَّاهُ.
10- كَانَ الإِجْمَاعُ (إِجْمَاعُ الصَحَابَةِ) مُنْعَقِداً عَلَى أَنَّ لِلإِمَامِ أَنْ يَتَبَنَّى أَحْكَاماً مُعَيَّنَةً، ويَأْمُرَ بالعَمَلِ بِهَا، وعَلَى المُسْلِمينَ طَاعَتُهَا ولَوْ خَالَفَتِ اجتِهادَهُمْ.
11- القَوَاعِدُ الشَرْعِيَّةُ المَشْهُورَةُ هِيَ:
- (لِلْسُلْطَانِ أَنْ يُحْدِثَ مِنَ الأَقْضِيَةِ بقَدَرِ مَا يَحْدُثُ مِنْ مُشْكِلاتٍ).
- (أَمْرُ الإِمَامِ يَرْفَعُ الخِلافَ).
- (أَمْرُ الإِمَامِ نَافِذٌ ظَاهِراً وبَاطِناً).
12- صَارَ الخُلَفَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَبَنَّوْنَ أَحْكَاماً مُعَيَّنَةً، فَقْدْ تَبَنَّى هَارُونُ الرَشِيدُ كِتَابَ (الخَرَاجِ) في النَاحِيَةِ الاقْتِصَادِيَّةِ، وأَلْزَمَ النَاسَ بالعَمَلِ بالأَحْكَامِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ.
وَقَبلَ أنْ نُوَدِّعَكُمْ إِخوَانَنَا الكِرَامَ وَأخَوَاتِنَا الكَرِيمَاتِ نَذكُرُ لَكُمْ - حَتَّى لا نُطِيلَ عَلَيكُمْ - مَثَلاً وَاحِداً مِنْ أروَعِ الأمثِلَةِ عَلَى قَاعِدَةِ: (أَمْرُ الإِمَامِ نَافِذٌ ظَاهِراً وبَاطِناً). كَانَ بَعضُ بَائِعِي اللَّبَنِ يَخلِطُ اللَّبَنَ بِالمَاءِ, وَاشتَكَى المُسلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ, فَأرسَلَ الخَلِيفَةُ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ t أحَدَ رِجَالِهِ يُنَادِي فِي بَائِعِي اللَّبَنِ بِعَدَمِ الغِشِّ, فَدَخَلَ المُنَادِي إِلَى السُّوقِ وَنَادَى: "يَا بَائِعِي اللَّبَنِ, لا تَشُوبُوا - أي لا تَخلِطُوا - اللَّبَنَ بِالمَاءِ, فَتَغُشُّوا المُسلِمِينَ, وَإِنَّ مَنْ يَفعَلُ ذَلِكَ, فَسَوفَ يُعَاقِبُهُ أمِيرُ المُؤمِنِينَ عِقَاباً شَدِيداً". وَذَاتَ لَيلَةٍ خَرَجَ مَعَ خَادِمِهِ أسلَمَ لِيَتَفَقَّدَ أحْوَالَ المُسلِمِينَ فِي جَوفِ اللَّيلِ, وَفِي إِحدَى الطُّرُقِ استَرَاحَ مِنَ التَّجوَالِ بِجَانِبِ جِدَارٍ, فَإِذَا بِهِ يَسمَعُ امرَأةً تَقُولُ لابنَتِهَا: قُومِي إِلَى ذَلِكَ اللَّبَنَ فَامذُقِيهِ - أي اخلِطِيهِ بِالمَاء - تَعَالَوا بِنَا نَسمَعُ بِقِيَّةَ الحِكَايَةِ يَرويِهَا لنَا خَادِمُهُ أسلَمُ.
أخرَجَ أبُو نَعِيمٍ فِي الحِليَةِ عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ زَيدٍ بنِ أسلَمَ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَسْلَمَ قَالَ: "بَينَمَا أنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ وَهُوَ يَعُسُّ المَدِينَةَ إِذْ أعيَا وَاتَّكأَ عَلَى جَانِبِ جِدَارٍ فِي جَوفِ اللَّيلِ, وَإِذَا امرَأةٌ تَقُولُ لابنَتِهَا: يَا ابنَتَاهُ, قُومِي إِلَى ذَلِكَ اللبَّنِ فَامذُقِيهِ بِالمَاءِ. فَقَالَتْ لَهَا يَا أُمَّتَاهُ, وَمَا عَلِمْتِ مَا كَانَ مِنْ عَزْمَةِ أمِيرِ المُؤمِنِينَ اليَومَ؟ قَالَتْ: وَمَا كَانَ مِنْ عَزمَتِهِ يَا بُنَيَّةِ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ أمَرَ مُنَادِياً فَنَادَى ألَّا يُشَابَ اللَّبَنُ بِالمَاءِ, فَقَالَتْ لَهَا: يَا بُنَيَّةِ, قُومِي إِلَى اللَّبَنِ فَامذُقِيهِ بِالمَاءِ, فَإِنَّكِ بِمَوضِعٍ لا يَرَاكِ عُمَرُ, وَلا مُنَادِي عُمَرَ.
فَقَالَتِ الصَّبِيَّةُ لأُمِّهَا: يَا أُمَّتَاهُ, مَا كُنتُ لأُطِيعَهُ فِي المَلأ, وَأعصِيَهُ فِي الخَلاءِ. يَا أُمَّتَاهُ, إِنْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ لا يَرَانَا, فَإِنَّ رَبَّ عُمَرَ يَرَانَا - وَعُمَرُ يَسمْعُ كُلَّ ذَلِكَ - فَأُعجِبَ عُمَرُ بِهَا, وَقَالَ لِخَادِمِهِ: يَا أسْلَمُ, عَلِّمِ البَابَ وَاعْرِفِ المَوضِعَ, ثُمَّ مَضَى فِي عَسَسِهِ حَتَّى أصْبَحَ, فَلَمَّا أصْبَحَ قَالَ: يَا أسْلَمُ, امضِ إِلَى المَوضِعِ فَانظُرْ مَنِ القَائِلَةُ, وَمَنِ المَقُولُ لَهَا, وَهَلْ لَهُمْ مِنْ بَعْلٍ؟؟ فَأتَيتُ المَوضِعَ فَنَظَرتُ, فَإِذَا الجَارِيَةُ أيِّمٌ لا بَعلَ لَهَا, وَإِذَا تِيكَ أمُّهَا, وَإِذْ لَيسَ لَهُمْ رَجُلٌ, فَأتَيتُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ, فَأخْبَرْتُهُ فَدَعَا عُمَرُ وُلْدَهُ فَجَمَعَهُمْ فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ يَحتَاجُ إِلَى امرَأةٍ أُزَوِّجُهُ, وَلَو كَانَ بِأَبِيكُمْ حَرَكَةٌ إِلَى النَّسَاءِ مَا سَبَقَهُ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَى هَذِهِ المَرأَةِ؟! فَقَالَ عَبدُ اللهِ لِي زَوجَةٌ, وَقَالَ عَبدُ الرَّحمَنِ: لِي زَوجَةٌ, وَقَالَ عَاصِمُ: يَا أبَتَاهُ لا زَوجَةَ لِي فَزَوِّجْنِي, فَبَعَثَ إِلَى الجَارِيَةِ فَزَوَّجَهَا مِنْ عَاصِمٍ, فَوَلَدَتْ لِعَاصِمٍ بِنتاً, وَوَلَدَتِ البِنْتُ عُمَرَ بْنَ عَبدِ العَزِيزِ". رَحِمَ اللهُ العُمَرَينِ: عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ, وَعُمَرَ بْنَ عَبدِ العَزِيزِ رَحْمَةً وَاسِعَةً, وَمَنَّ عَلَى أُمَّةِ الإِسلامِ بِخَلِيفَةٍ مِثلِهِمَا!!
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.