- الموافق
- كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح270) الصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون الواردة في آيات سورة الإسراء (2)
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ، وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ، وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ، وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ، خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ، الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ، وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ، فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ، وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ" وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّبعِينَ بَعدَ المِائَتَينِ، وَعُنوَانُهَا: "بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ سُوَرِ القُرآنِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ أنْ يَتَحَلَّى بِهَا الإِنسَانُ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتَينِ: التَّاسِعَةِ وَالثَّلاثِينَ، وَالأَربَعِينَ بَعدَ المِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
ويقول الله تعالى في سورة الإسراء:(وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً).
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ، يَا أُمَّةَ القُرآنْ، يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ، يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ، يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبّاً، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيّاً وَرَسُولاً، وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجاً وَدُستُوراً، وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَاماً لِلْحَياَة، أَيُّهَا المُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ، فَوقَ كُلِّ أَرضٍ، وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ، يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ، أَيُّهَا المُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ:
أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ كِتَابَ «نِظَامِ الإِسْلَامِ» هَذَا الكِتَابُ الَّذِي عَرَضْنَاهُ عَلَيكُمْ عَرْضاً مُفَصَّلاً، وَقَدْ أَوْشَكْنَا عَلَى الانتِهَاءِ مِنْ عَرضِهِ، بَيَّنَ فِيهِ هَؤُلَاءِ العُلَمَاءُ الأَجِلَّاءُ لِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا دِينَ الإِسلَامِ غَضّاً طَرِيّاً كَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ، ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ الكَامِلُ والشَّامِلُ لِجَمِيعِ شُؤُونِ الحَيَاةِ، بِصُورَتِهِ النَّاصِعَةِ الوَاضِحَةِ، وَحَقِيقَتِهِ النَّقِيَّةِ الصَّافِيَةِ المُبَلْوَرَةِ.
وَفي خِتَامِ كِتَابِ «نِظَامِ الإِسْلَامِ» حَتَّى لَا تَلْتَبِسَ سَبِيلِ النَّهْضَةِ عَلَى السَّائِرِينَ، بَحَثَ هَؤُلَاءِ العُلَمَاءُ مَوضُوعاً في غَايَةِ الأَهَمِّيَّةِ، أَلَا وَهُوَ «الأَخلَاق فِي الإِسلَامِ» وَلِكَيْ يَسْهُلَ تَنَاوُلَنَا لَهْ ارْتأَينَا تَجزِئَتَهُ لِعِدَّةِ أَجْزَاءَ، وَإِلَيكُمُ الجُزْءَ السَّابِعَ مِنهُ.
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ سُوَرِ القُرآنِ الكَرِيمِ الأَخلَاقَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا المُؤْمِنُونَ، وَيُمكِنُ بَيَانُ وَإِبرَازُ مَا كَتَبَهُ الأُستَاذُ سَيِّد قُطْب - رَحِمَهُ اللهُ - «فِي ظِلَالِ القُرآنِ» حَولَ آيَاتِ سُورَةِ الإِسْرَاءِ مِنْ خِلَالِ النُّقَاطِ الآتِيَةِ:
1. وَبِمُنَاسَبَةِ التَّبذِيرِ وَالنَّهْيِ عَنهُ يَأْمُرُ بِالتَّوَسُّطِ فِي الإِنفَاقِ كَافَّةً: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً). وَالتَّوَازُنُ هُوَ القَاعِدَةُ الكُبْرَى فِي النَّهْجِ الإِسْلَامِيِّ، وَالغُلُوُّ كَالتَّفْرِيطِ يُخِلُّ بِالتَّوَازُنِ. وَالتَّعبِيرُ هُنَا يَجرِي عَلَى طَرِيقَةِ التَّصْوِيرِ؛ فَيَرسُمُ البُخْلَ يَداً مَغْلُولَةً إِلَى العُنُقِ، وَيَرْسُمُ الإِسْرَافَ يَداً مَبْسُوطَةً كُلَّ البَسْطِ لَا تُمْسِكُ شَيئاً، وَيَرسُمُ نِهَايَةَ البُخْلِ وَنِهَايَةَ الإِسْرَافِ قَعْدَةً كَقَعْدَةِ المَلُومِ المَحْسُورِ. و"الحَسِيرُ" فِي اللُّغَةِ "الدَّابَّةُ تَعْجَزُ عَنِ السَّيرِ فَتَقِفُ ضَعْفاً وَعَجْزاً". فَكَذَلِكَ البَخِيلُ يَحْسُرُهُ بُخْلُهُ فَيَقِفُ. وَكَذَلِكَ المُسْرِفُ يَنتَهِي بِهِ سَرَفُهُ إِلَى وَقْفَةِ الحَسِيرِ. مَلُوماً فِي الحَالَتَينِ عَلَى البُخْلِ وَعَلَى السَّرَفِ، وَخَيْرُ الأُمُورِ الوَسَطُ.
2. ثُـمَّ يُعَقِّبُ عَلَى الأَمْرَ بِالتَّوَسُّطِ بِأَنَّ الرَّازِقَ هُوَ اللهُ. هُوَ الَّذِي يَبسُطُ فِي الرِّزْقِ وَيُوَسِّعُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ فِي الرِّزْقِ وَيُضَيِّقُ. وَمُعطِي الرِّزْقَ هُوَ الآمِرُ بِالتَّوَسُّطِ فِي الإنْفَاقِ: (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه كان بعباده خبيراً بصيراً). يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ عَنْ خِبْرَةٍ وَبَصَرٍ، وَيَقْدِرُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ عَنْ خِبْرَةٍ وَبَصَرٍ. وَيَأْمُرُ بِالقَصْدِ وَالاعتِدَالِ، وَيَنْهَى عَنِ البُخْلِ وَالسَّرَفِ، وَهُوَ الخَبِيرُ البَصِيرُ بِالأَقْوَامِ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ؛ وَقَدْ أَنْزَلَ هَذَا القُرآنَ يَهدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ.
3. قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِملَاقٍ نَحْنُ نَرزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ، إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً). كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُونَ البَنَاتِ خَشْيَةَ الفَقْرِ وَالإِمْلَاقِ؛ فَلَمَّا قَرَّرَ فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ اللهَ يَبسُطُ الرِّزْقَ لِـمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، أَتْبَعَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الأَولَادِ خَشْيَةَ الإِمْلَاقِ فِي المَكَانِ المُنَاسِبِ مِنَ السِّيَاقِ. فَمَا دَامَ الرِّزْقُ بِيَدِ اللهِ، فَلَا عَلَاقَةَ إِذَنْ بَينَ الإِمْلَاقِ وَكَثْرَةِ النَّسْلِ أَوْ نَوعِ النَّسْلِ؛ إِنَّمَا الأَمْرُ كُلُّهُ إِلَى اللهِ. وَمَتَى انتَفَتِ العَلَاقَةُ بَينَ الفَقْرِ وَالنَّسْلِ مِنْ تَفكِيرِ النَّاسِ، وَصُحِّحَتْ عَقِيدَتُهُمْ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَّةِ فَقَدِ انتَهَى الدَّافِعُ إِلَى تِلْكَ الفِعْلَةِ الوَحْشِيَّةِ المُنَافِيَةِ لِفْطَرَةِ الأَحْيَاءِ وَسُنَّةِ الحَيَاةِ.
4. وَمِنَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الأَولَادِ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الزِّنَا، قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَقرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً). وَبَينَ قَتْلِ الأَولَادِ وَالزِّنَا صِلَةٌ وَمُنَاسَبَةُ، وَقَدْ تَوَسَّطَ النَّهْيُ عَنِ الزِّنَا بَينَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الأَوْلَادِ، وَالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ لِذَاتِ الصِّلَةِ وَذَاتِ المُنَاسَبَةِ. إِنَّ فِي الزِّنَا قَتْلاً مِنْ نَوَاحٍ شَتَّى:
أ- إِنَّهُ قَتْلٌ ابتِدَاءً، لِأَنَّهُ إِرَاقَةٌ لِمَادَّةِ الحَيَاةِ فِي غَيرِ مَوضِعِهَا، يَتْبَعُهُ غَالباً الرَّغْبَةُ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ آثَارِهِ بِقَتْلِ الجَنِينِ قَبْلَ أَنْ يَتَخَلَّقَ أَوْ بَعْدَ أَنْ يَتَخَلَّقَ، قَبْلَ مَولِدِهِ أَوْ بَعْدَ مَولِدِهِ، فَإِذَا تُرِكَ الجَنِينُ لِلحَيَاةِ تُرِكَ فِي الغَالِبِ لِحَيَاةٍ شِرِّيرَةٍ، أَوْ حَيَاةٍ مَهِينَةٍ، فَهِيَ حَيَاةُ مَضْيَعَةٍ فِي المُجْتَمَعِ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الأَنحَاءِ.
ب- وَهُوَ قَتْلٌ فِي صُورَةٍ أُخرَى، قَتْلٌ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي يَفشُو فِيهَا، فَتَضِيعُ الأَنْسَابُ وَتَختَلِطُ الدِّمَاءُ، وَتَذْهَبُ الثِّقَةُ فِي العِرْضِ وَالوَلَدِ، وَتَتَحَلَّلُ الجَمَاعَةُ وَتَتَفَكَّكُ رَوَابِطُهَا، فَتَنتَهِيَ إِلَى مَا يُشْبِهُ المَوتَ بَينَ الجَمَاعَاتِ.
ت- وَهُوَ قَتْلٌ لِلْجَمَاعَةِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، إِذْ إِنَّ سُهُولَةَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ عَنْ طَريِقِهِ يَجْعَلُ الحَيَاةَ الزَّوجيَّةَ نَافِلَةً لَا ضَرُورَةَ لَهَا، وَيَجْعَلُ الأُسْرَةَ تَبِعَةً لَا دَاعِيَ إِلَيهَا، وَالأُسْرَةُ هِيَ المَحْضَنُ الصَّالِحُ لِلفِرَاخِ النَّاشِئَةِ، لَا تَصِحُّ فِطْرَتُهَا، وَلَا تَسْلَمُ تَربِيَتُهَا إِلَّا فِيهِ. وَمَا مِنْ أُمَّةٍ فَشَتْ فِيهَا الفَاحِشَةُ إِلَّا صَارَتْ إِلَى انحِلَالٍ، مُنذُ التَّارِيخِ القَدِيمِ إِلَى العَصْرِ الحَدِيثِ.
5. وَالقُرآنُ يُحَذِّرُ مِنْ مُجَرَّدِ مُقَارَبَةِ الزِّنَا فَيَقُولُ: (وَلَا تَقرَبُوا الزِّنَا) وَهِيَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّحَرُّزِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا تَدْفَعُ إِلَيهِ شَهْوَةٌ عَنِيفَةُ، فَالتَّحَرُّزُ مِنَ المُقَارَبَةِ أَضْمَنُ. فَعِنْدَ المُقَارَبَةِ مِنْ أَسْبَابِهِ لَا يَكُونُ هُنَاكَ ضَمَانٌ.
6. وَمِنْ ثَمَّ يَأْخُذُ الإِسلَامُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى أَسْبَابِ الزِّنَا الدَّافِعَةِ، تَوَقِّياً لِلْوُقُوعِ فِيهِ: يَكْرَهُ الإِسْلَامُ الاختِلَاطَ فِي غَيرِ ضَرُورَةٍ.. وَيُحَرِّمُ الخَلْوَةَ.. وَيَنْهَى عَنِ التَّبَرُّجِ بِالزِّينَةِ.. وَيَحُضُّ عَلَى الزَّوَاجِ لِمَنِ استَطَاعَ.. وَيُوصِي بِالصَّومِ لِمَنْ لَا يَستَطِيعُ.. وَيَكْرَهُ الحَوَاجزَ الَّتِي تَمنَعُ مِنَ الزَّوَاجِ كَالمُغَالَاةِ فِي المُهُورِ.. وَيَنْفِي الخَوفَ مِنَ العَيلَةِ وَالإِملَاقِ بِسَبَبِ الأَولَادِ.. وَيَحُضُّ عَلَى مُسَاعَدَةِ مَنْ يَبتَغُونَ الزَّوَاجَ لِيُحَصِّنُوا أَنفُسَهُمْ.. وَيُوقِعُ أَشَدَّ العُقُوبَةَ عَلَى الجَرِيمَةِ حِينَ تَقَعُ، وَعَلَى رَمْيِ المُحْصَنَاتِ الغَافِلَاتِ دُونَ بُرهَانٍ.. إِلَى آخِرِ وَسَائِلِ الوِقَايَةِ وَالعِلَاجِ، لِيَحْفَظَ الجَمَاعَةَ الإِسلَامِيَّةَ مِنَ التَّرَدِّي وَالانْحِلَالِ!!
7. وَيَختِمُ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ الأَولَادِ، وَعَنِ الزِّنَا بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ إِلَّا بِالحَقِّ: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً). فَاللهُ يَكْرَهُ المُثْلَةَ، وَالرَّسُولُ قَدْ نَهَى عَنْهَا. (فَلَا يُسْرفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً) يَقْضِي لَهُ اللهُ، وَيُؤَيِّدُهُ الشَّرعُ، وَيَنصُرُهُ الحَاكِمُ. فَلْيَكُنْ عَادِلاً فِي قَصَاصِهِ، وَكُلُّ السُّلُطَاتِ تُنَاصِرُهُ، وَتَأْخُذُ لَهُ بِحَقِّهِ.
8. وَفِي تَولِيَةِ صَاحِبِ الدَّمِ عَلَى القَصَاصِ مِنَ القَاتِلِ، وَتَجنِيدِ سُلْطَانِ الشَّرعِ، وَسُلْطَانِ الحَاكِمِ لِنُصْرَتِهِ تَلْبِيَةً لِلْفِطْرَةِ البَشَرِيَّةِ، وَتَهدِئَةً لِلغَلَيَانِ الَّذِي تَسْتَشْعِرُهُ نُفْسُ الوَلِيِّ. الغَلَيَانِ الَّذِي قَدْ يَجْرِفُهُ وَيَدْفَعُهُ إِلَى الضَّرْبِ يَمِيناً وَشَمَالاً فِي حُمَّى الغَضَبِ وَالانفِعَالِ عَلَى غَيرِ هُدىً. فَأَمَّا حِينَ يُحِسُ أَنَّ اللهَ قَدْ وَلَّاهُ عَلَى دَمِ القَاتِلِ، وَأَنَّ الحَاكِمَ مُجَنَّدٌ لِنُصْرَتِهِ عَلَى القَصَاصِ، فَإِنَّ ثَائِرَتَهُ تَهْدَأُ وَنَفْسُهُ تَسْكُنُ، وَيَقِفُ عِندَ حَدِّ القَصَاصِ العَادِلِ الهَادِئِ.
9. وَبَعْدَ أَنْ يَنتَهِيَ السِّيَاقُ مِنْ حُرْمَةِ العِرْضِ وَحُرْمَةِ النَّفْسِ، يَتَحَدَّثُ عَنْ حُرْمَةِ مَالِ اليَتِيمِ، وَحُرْمَةِ العَهْدِ. (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً). وَالإِسلَامُ يَحْفَظُ عَلَى المُسْلِمِ دَمَهُ وَعِرْضَهُ وَمَالَهُ، لِقَولِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرضُهُ وَمَالُهُ». وَلَكِنَّهُ يُشَدِّدُ فِي مَالِ اليَتِيمِ وَيُبْرِزُ النَّهْيَ عَنْ مُجَرَّدِ قُرْبِهِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. ذَلِكَ أَنَّ اليَتِيمَ ضَعِيفٌ عَنْ تَدبِيرِ مَالِهِ، ضَعِيفٌ عَنِ الذَّودِ عَنهُ، وَالجَمَاعَةُ الإِسلَامِيَّةُ مُكَلَّفَةٌ بِرَعَايَةِ اليَتِيمِ وَمَالِهِ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَيَرْشُدَ وَيَستَطِيعَ أَنْ يُدَبِّرَ مَالَهُ وَأَنْ يَدْفَعَ عَنهُ.
10. وَمِمَّا يُلَاحَظُ فِي هَذِهِ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي أَنَّ الأُمُورَ الَّتِي يُكَلَّفُ بِهَا كُلُّ فَرْدٍ بِصِفَتِهِ الفَردِيَّةِ جَاءَ الأَمْرُ أَوِ النَّهْيُ فِيهَا بِصِيغَةِ المُفْرَدِ؛ أَمَّا الأُمُورُ الَّتِي تُنَاطُ بِالجَمَاعَةِ فَقَدْ جَاءَ الأَمْرُ أَوِ النَّهْيُ فِيهَا بِصِيغَةِ الجَمْعِ:
أ- فَفِي الإِحْسَانِ لِلوَالِدَينِ وَإِيتَاءِ ذِي القُربَى وَالمِسْكِينَ وَابنِ السَّبِيلِ، وَعَدَمِ التَّبذِيرِ، وَالتَّوَسُّطِ فِي الإِنفَاقِ بَينَ البُخْلِ وَالسَّرَفِ، وَفِي التَّثَبُّتِ مِنَ الحَقِّ وَالنَّهْيِ عَنِ الخُيَلَاءِ وَالكِبْرِ، كَانَ الأَمْرُ أَوِ النَّهْيِ بِصِيغَةِ المُفْرَدِ لِمَا لَهَا مِنْ صِبْغَةٍ فَردِيَّةٍ.
ب- وَفِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الأَولَادِ، وَعَنِ الزِّنَا، وَعَنْ قَتْلِ النَّفْسِ، وَالأَمْرِ بِرِعَايَةِ مَالِ اليَتِيمِ وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَإِيفَاءِ الكَيلِ وَالمِيزَانِ كَانَ الأَمْرُ أَوِ النَّهْيُ بِصِيغَةِ الجَمْعِ لِمَا لَهَا مِنْ صِبْغَةٍ جَمَاعِيَّةٍ. وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ قُرْبِ مَالِ اليَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي صِيغَةِ الجَمْعِ، لِتَكُونَ الجَمَاعَةُ كُلُّهَا مَسئُولَةً عَنِ اليَتِيمِ وَمَالِهِ، فَهَذَا عَهْدٌ عَلَيهَا بِوَصْفِهَا جَمَاعَةً. وَلِأَنَّ رِعَايَةَ مَالِ اليَتِيمِ عَهْدٌ عَلَى الجَمَاعَةِ أُلْحِقَ بِهِ الأَمْرُ بِالوَفَاءِ بِالعَهْدِ إِطْلَاقاً. (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً). يَسْأَلُ اللهُ جل جلاله عَنِ الوَفَاءِ بِهِ، وَيُحَاسِبُ مَنْ يَنكُثُ بِهِ وَيَنقُضُهُ. وَقَدْ أَكَّدَ الإِسلَامُ عَلَى الوَفَاءِ بِالعَهْدِ وَشَدَّدَ.
11. وَمِنَ الوَفَاءِ بِالعَهْدِ إِلَى إِيفَاءِ الكَيلِ وَالمِيزَانِ: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) وَالمُنَاسَبَةُ بَينَ الوَفَاءِ بِالعَهْدِ وَإِيفَاءِ الكَيلِ وَالمِيزَانِ ظَاهِرَةٌ فِي المَعْنَى وَاللَّفْظِ، وَإِيفَاءُ الكَيلِ وَالاستِقَامَةُ فِي الوَزْنِ، أَمَانَةٌ فِي التَّعَامُلِ، وَنَظَافَةٌ فِي القَلْبِ، تَتِمُّ بِهِمَا البَرَكَةُ فِي الحَيَاةِ (ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) خَيرٌ فِي الدُّنيَا وَأَحْسَنُ مَآلاً فِي الآخِرَةِ. وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَقْدِرُ رَجُلٌ عَلَى حَرَامٍ ثُمَّ يَدَعُهُ، لَيسَ بِهِ إِلَا مَخَافَةُ اللهِ، إِلَّا أَبدَلَهُ اللهُ بِهِ فِي عَاجِلِ الدُّنيَا قَبْلَ الآخِرَةِ مَا هُوَ خَيرٌ مِنْ ذَلِكَ».
12. وَالعَقِيدَةُ الإِسلَامِيَّةُ عَقِيدَةُ الوُضُوحِ وَالاستِقَامَةِ وَالنَّصَاعَةِ. فَلَا يَقُومُ شَيءٌ فِيهَا عَلَى الظَّنِّ أَوْ الوَهْمِ أَوِ الشُّبْهَةِ: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً). وَهَذِهِ الكَلِمَاتُ القَلِيلَةُ تُقِيمُ مَنْهَجاً كَامِلاً لِلْقَلْبِ وَالعَقْلِ، يَشْمَلُ المَنْهَجَ العَلْمِيَّ الَّذِي عَرَفَتْهُ البَشَرِيَّةُ حَدِيثاً جِدّاً، وَيُضِيفُ إِلَيهِ استِقَامَةَ القَلْبِ وَمُرَاقَبَةَ اللهِ. هَذِهِ هِيَ مِيزَةُ الإِسْلَامِ عَلَى المَنَاهِجِ العَقْلِيَّةِ الجَافَّةِ! فَالتَّثَبُّتُ مِنْ كُلِّ خَبَرٍ، وَمِنْ كُلِّ ظَاهِرَةٍ، وَمِنْ كُلِّ حَرَكَةٍ قَبْلَ الحُكْمِ عَلَيهَا هُوَ دَعْوَةُ القُرآنِ الكَرِيمِ، وَمَنْهَجُ الإِسْلَامِ الدَّقِيق.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.