- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
إقامة الدولة في ظل قانون السببية
للكاتب والمفكر ثائر سلامة - أبو مالك
(الجزء الرابع: الأمر الإلهي الحكيم بالنظر في السنن)
للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنا
قال الحق سبحانه: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾ [آل عمران: 137]
علاوة على أمر الله تعالى بالنظر في السنن التي مضت، ففي هذه الآية دلالة واضحة على اطّراد السنن، أي تكرارها متى ما تكررت الأسباب المفضية لها، ودلالة واضحة على أن هذه السنن لا تحابي أحداً! وإلا فإن النظر في السنن إن لم تكن تتكرر بتكرر أسبابها لا يفيد في أخذ العبرة للحاضر! بل ولولا أنها تتكرر لما صح أن تسمى بالسنن!
فالسنن هنا للعبرة والعظة، مخافة الوقوع في مَظِنَّة السَّبَبِ فيقع المسبَّبُ، وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النساء: 26].
وهناك آيات أخرى أكدت على الاستقراء والنظر والتدبر في الحوادث التاريخية من أجل تكوين نظرة استقرائية من أجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية ﴿... أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا...﴾ [محمد: 10]. ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [غافر: 82]،. ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ...﴾ [الحج: 45- 46]. ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ...﴾ [ق: 36- 37]، من مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني... وهو تأكيد القرآن على أن الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الأخرى، وأن استكشافها، والتفكر فيها، ومجانبة الوقوع في مَظِنَّةِ مهلكاتها آيات لأولي القلوب والأبصار!.
وتتميز هذه السنن بالثبات، والاطراد، وأنها لا تحابي أحدا، فبحدوث المسبِّبات التي تتسبب بوجود هذه السنن توجد، أي أنها تسير وفقا لقانون السببية، ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الفتح: 23]، ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾، [فاطر: 43]، فلا تتبدل، ولا تتحول، فهي قوانين صارمة، والسنة الطريقة الثابتة، ولا تسمى سنة إلا إذا كانت ثابتة، ولأن الأمر فيه عبرة، والعبرة لا تكون إلا في سنة جارية مضطردة لا تتبدل ولا تتغير، فهي منهج قائم على قانون دائم يجري حين تتوفر شروط معينة، وأسباب معينة، هذه الأسباب والشروط تمتلك القدرة على إحداث التغيير في واقع ما حين تتسلط عليه، (فيها طاقة كافية لإحداث التغيير إذا ما تسلطت على ذلك الواقع) فإذا ما وجدت حصل التغيير من حال إلى حال! فمعرفة الشروط والأسباب غاية في الأهمية في كل عمل! ولا توجد الجدية في أي عمل إلا إذا درست هذه الشروط وهذه الأسباب حق الدراسة، وتم العمل بناء عليها!
يقول الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر رحمه الله: "حينما أراد القرآن أن يتحدث عن انكسار المسلمين في غزوة أحد بعد أن أحرزوا ذلك الانتصار الحاسم في غزوة بدر، قال: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران:140]. هنا أخذ يتكلم عن المسلمين بوصفهم أناسا، قال: بأن هذه القضية هي في الحقيقة ترتبط بسنن التاريخ، المسلمون انتصروا في بدر حينما كانت الشروط الموضوعية للنصر بحسب منطق سنن التاريخ تفرض أن ينتصروا، وخسروا المعركة في أحد حينما كانت الشروط الموضوعية في معركة أحد تفرض عليهم أن يخسروا المعركة. ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]. لا تتخيلوا أن النصر حق إلهي لكم، وإنما النصر حق طبيعي لكم بقدر ما يمكن أن توفروا الشروط الموضوعية لهذا النصر بحسب منطق سنن التاريخ التي وضعها الله سبحانه وتعالى كونيا لا تشريعيا، وحيث إنكم في غزوة أحد لم تتوفر لديكم هذه الشروط ولهذا خسرتم المعركة"[1] انتهى قول الصدر.
أقول معقبا: من شروط النصر التي تستجلب سُنَّةً إلهية أن ينصروا الله، فلما لم يطع المسلمونَ الرسولَ rفي أحد، لم يحققوا الشرط فخضعوا لسنةٍ كونيةٍ، ورُفِعَتْ عنهم سُنَّةٌ إلهية هي التي نصرتهم في بدر وهم قلة! أين رأينا هذه السنة من قبل في التاريخ؟ حين جاوز طالوت بجنوده الذين أطاعوه النهر لمواجهة جالوت وجنوده، ولم يشربوا من الماء إلا غرفة باليد، ولم يجاوز معه من شرب وعصا، وحققوا شروط نصر الله، نصرهم الله وهم قلة!
[1] الشهيد محمد باقر الصدر، السنن التاريخية في القرآن الكريم.