- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2024-12-18
جريدة الراية: لا بد أن تتحرر مجتمعات الغرب
إلى رحاب الفطرة السوية
ما هو تعريف المرأة؟ سؤال صعب على البريطانيين، وتحاول المحاكم الإجابة عليه، وقد تكون الأسئلة التي تبدو بديهية هي الأكثر صعوبة، فقد أصبح هذا السؤال محط نزاع منذ سنوات في اسكتلندا، حتى وصل إلى الجهة القضائية العليا في المملكة المتحدة للبت فيه، فيما قد تكون له تبعات مباشرة على النساء المتحولات جنسيا في البلاد، حيث كان هذا الموضوع إشكالاً دائماً، ففي عام 2022، أصدرت الحكومة المحلية قانونا لتسهيل تغيير الجنس، مع إجازته من دون استشارة طبية اعتبارا من سن 16 عاما. وفي مواجهة الجدل، حُظر القانون في نهاية المطاف من الحكومة المركزية في لندن، وفي كانون الثاني/يناير 2023، اضطرت السلطات الأسكتلندية إلى الإعلان عن وقف نقل أي سجينة متحولة جنسيا، ولها تاريخ في العنف ضد المرأة، إلى سجن للنساء، بعد قضيتين صدمتا الرأي العام. (موقع إذاعة مونت كارلو، 28/11/2024م)
ورثت أوروبا أنظمة وضعية، جميعها تؤسس لعلاقة بين الرجل والمرأة، حيث لا توجد فيها مودة ولا رحمة، بل تقوم على العداء والتشاحن والتباغض والمصلحة الآنية، والانتقاص من قيمة المرأة، التي كانت تعرف في دياناتهم المحرفة بالشيطان، والكائنات غير الإنسانية، وأنها نجسة لا يجوز الأكل معها، لدرجة أن علماءهم المتنورين سموا الأعاصير بأسماء نسائية، فأصبحت الدونية تلاحق المرأة كموروث حضاري، وليس من الإنصاف، ولا من الإصلاح أن تذهب الحضارة الغربية، التي تدعي العلم والعقلانية إلى الطرف المضاد، فتفرض المساواة الإجبارية المطلقة ضد الفطرة البشرية، وضد مصلحة الحياة البشرية، بل ضد مصلحة المرأة نفسها، وضد كرامتها وسعادتها، وسعادة المجتمع، الذي أدمن فوضى الجندر، وفقد البوصلة حتى في الإجابة عن البديهيات، ليدفع ثمن إرثه الحضاري المختل ميزانه.
والمشاهد أن الغرب يمارس تضليلا كثيفا، قد يصل إلى حد الإرهاب والتخويف، من أجل إسكات العلماء والمفكرين، ومنعهم من التفكير الصحيح، حتى لو اقتضى الأمر هدم أهم أعمدة حضارتهم، وهما حرية التفكير، وحرية التعبير، ويكون بذلك كالتي نقضت غزلها بيدها، يستنسخون ما كان عندهم في القرون المظلمة، ويكفّرون عن نظرتهم السابقة المنحرفة، بأخرى أكثر انحرافا ومنها قضية المساواة التامة بين الرجل والمرأة، تلك القضية التي فرضت فرضا على المجتمع، ولم يرد من ابتدعها إلا مصالح آنية أنانية. أما النساء والرجال، فقد أصبحوا عبيدا ينفذون قانون هذا الانحراف، وكأنهم يقدسونه دون أن يبدي أي منهم رأيا!
وقد تداولت وسائل الإعلام خبر المسؤول الجامعي الأمريكي، الذي ذهب إلى القول بتفوق الذكور على الإناث في الرياضيات، ثم تراجع على الفور، لأنه أرغم على التراجع والاعتذار! فالمسألة في حقيقتها مناصب ومكاسب، قلما يستطيع أحد التضحية بها، فلتمُت الحقائق الساطعة الجلية في حضارة رفعت المنفعة والمصلحة مقياسا للقيم المسماة اليوم بالكونية، وهي قيم يتم فرضها وتغليبها وتعظيمها، لأن صناعها وتجارها هم الذين لهم الغلبة والسطوة، ويريدون عبر هذه القيم المنحطة إبطال كل الفوارق، والتمايز بين الرجل والمرأة.
إنهم يريدون أن يجعلوا "اثنين في واحد"، فكل ما تتصف به المرأة يتصف به الرجل، وكل ما يتصف به الرجل تتصف به المرأة، وكل ما يفعله الرجل تفعله المرأة، وكل ما تؤديه المرأة يؤديه الرجل، وكل ما يلزم أحدهما يلزم الآخر، وكل ما يجوز أو لا يجوز لأحدهما، يجوز أو لا يجوز للآخر، حرفا بحرف، وشكلا بشكل، بهذه النظرة البشرية الضيقة، فتحولت النساء إلى رجال والعكس!
أما في الإسلام؛ دين الله رب العالمين، فإن المرأة والرجل كل منهما يكمل صاحبه، ويخدمه، ويندمج فيه، قال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾، غير أن الإسلام في هذا الباب قد حمل الرجل قسطا إضافيا من الخدمة والرعاية للمرأة، وهو القسط المعبَّر عنه بالقوامة، التي هي درجة من المسؤولية أنيطت بالرجل تجاه أهله، قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، وقال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾، هذه النظرة التي وفقها تشرفت المرأة بمقام الملكة في عصر سيطرة الإسلام، فكانت النساء يزاحمن العلماء في الفقه والطب والهندسة، وفي كافة المجالات، منافسة تستنطق العقل لا الجسد، هذه النظرة الربانية من خالق المرأة والرجل، تتسامى عن النقائص، وتعلو فوق الإرث الحضاري المنحرف، الذي تتوحل فيه الحضارة الغربية اليوم في نظرتها للعلاقة بين الرجل والمرأة، والتي قادت المجتمع إلى الانحراف البائن.
تتنازع المحاكم في الغرب على تعريف المرأة، لإثبات نظرتهم البشرية، التي لن تعلو على تشريع رب العالمين الذي خلق الذكر والأنثى، بل إن في غير البشر ذكورة وأنوثة، قال الله تعالى: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، وجعل سبحانه وتعالى الزوجية بين الذكر والأنثى سببا للتلاقح والتوالد، ومظهرا للتكامل والتناسق، ومنبعا للمودة والرحمة والسكينة، فالرجل يأنس بالمرأة ويسعد بها باعتبارها امرأة مختلفة عنه، والمرأة تأنس بالرجل وتسعد به لأنه رجل مختلف عنها.
هذه هي الحقائق الناصعة التي تنكرها حضارة الغرب الكافر المستعمر، التي بلا شك سيأفل نجمها عما قريب.
إن إدراك هذه الحقائق سيضع نصب أعيننا بوصفنا مسلمات ضرورة الدعوة إلى أفكار الإسلام ومفاهيمه وأحكامه التي تعالج هذه السرطانات الفكرية التي تستأصل شأفة المجتمع الغربي، وذلك يقتضي الرجوع إلى أصل الشيء وفطرته الأصلية، فما دونه هو شذوذ وتيه وضلال، ولنضرب على هذا مثالاً بسيطاً؛ أرأيت لو أن رجلا وضع أمامه كوباً من عصير فمد يده إليه وصبه في إحدى فتحتي أذنيه، أتراه وقتئذ يكون عاقلاً صحيح الفطرة سوي التصرف، أم ستراه مجنوناً شاذاً عن الأصل، وهو الشرب عن طريق الأذن؟ فذلك قد ينهي حياته لأن الأذن للسمع وليست للشرب!
هكذا يجب أن تعود البشرية في هذا العصر والعصور القادمة، لتشريع رب العالمين، الذي سيقضي على الأمراض الاجتماعية والطواعين الفكرية التي تفتك بمجتمعات الغرب، والتي يجب أن تنعتق من عبوديتها، ومن شهواتها، وتتحرر إلى رحاب الفطرة السوية، فطرة الله التي فطر الناس عليها، وذلك لا يكون إلا في ظل الحياة الإسلامية التي يجب على الأمة أن توجدها على سطح كوكب الأرض؛ دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي أظل زمانها.
بقلم: الأستاذة غادة عبد الجبار – ولاية السودان
المصدر: جريدة الراية