- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
النصر بين الإيمان بالله وقانون السببية
انتظمت الدنيا بأسباب ومسببات، فما من مسبَّب إلا وله سبب، وإذا حصل أن نتج مسبب بغير سبب فإنّ ذلك لا يكون إلا على سبيل المعجزة، فالنار تحرق على كلّ حالٍ فكانت سبباً للحرق، والسكين تقطع فكانت سبباً للقطع، وقل مثل ذلك في الماء، وإذا فقد أي من هذه الأشياء خاصيته، في الحرق أو القطع أو الإغراق، كما حصل مع إبراهيم وبني إسرائيل، فإنّ ذلك لا يكون إلا لمعجزة، وهي لا تكون إلا لإثبات نبوة أو شيء بمعناها، المهم أنّ سلب السبب سببيته لا يكون إلا على خلاف الأصل، وقل مثل ذلك في كل سبب، فلا يصح أن يقال قد يجلس المرء أو يقف على الماء في البحر ولا يغرق، ثم يقول بقدرة الله سبحانه، لأنّ الله سبحانه لم يرد أن تكون قدرته خرقاً للسببية، وإلا فإنّ الدنيا ستسير على غير هدي وعلى غير انتظام.
والأسباب سواء أكانت كونية أو عقلية أو شرعية، لا بد أن ينتج عنها مسببها حتماً، وإذا تخلف المسبب عن سببه فإنّ ذلك لا يكون إلا لأحد أمرين:
الأول: وهو أن يحصل ذلك على سبيل المعجزة كما حصل مع إبراهيم عليه السلام لمّا سُلبت النار خاصية الإحراق، وبدلاً من أن تصبح مادة للتعذيب أصبحت برداً وسلاماً، وكما حصل مع موسى لمّا ضرب الله له طريقاً يبساً داخل البحر فعطّل سببية البحر ثم أغرق فرعون، ولمّا لحق بموسى ظناً منه أنّ البحر قد فقد خاصيته في الإغراق، فأعاد الله خاصية البحر له لمّا قضى موسى وقومه منه حاجتهم. فنزع الخاصية أو تعطيل الأسباب لا يكون إلا لمعجزة.
الأمر الثاني: وهو كون الأسباب التي ظنت أسباباً هي ليست كذلك، كمن أراد علاج السرطان مثلاً بمسكنات، أو أراد نقل صخرة عظيمة من مكان لآخر بقوته المتواضعة، ففي هاتين الحالتين فقط فإنّ المسبب لا يكون.
ففي الحالة الأولى والتي حصلت على سبيل الإعجاز، نزع الله الأسباب فيها، أي عطل قانون السببية، وفي الحالة الثانية لم يكن السبب سبباً، حتى ينتج عنه المسبب، أمّا في غير هاتين الحالتين فإنّ السببية وقانونها سارية في كل شيء في الكونيات والعقليات والشرعيات.
وحتى لا يطول بنا الحديث في المقدمات، وليس همّنا هنا أن نتحدث في الأسباب العقلية أو غيرها، وإنّما نريد الحديث في الأسباب الشرعية، وهل ينطبق عليها ما جاء في الأسباب العقلية، أي أنّ مسببها ينتج عنها حتماً، فنقول:
إنّ الشارع سبحانه وتعالى قد طلب من المكلفين أعمالاً وأفعالاً جعلها أسباباً أو شروطاً ليتحقق بها المسبب أو المشروط، وجعل هذه الأسباب والشروط أحكاماً شرعية، لا تتحقق الأحكام الشرعية في الواقع ولا توجد إلا بوجودها، فجعل دلوك الشمس سبباً في وجود صلاة الظهر ووجوبها على المكلف، مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع، وجعل امتلاك النصاب في الزكاة سبباً لوجوبها في عنق المكلف، وجعل حولان الحول شرطاً والدين مانعاً وهكذا، وما من حكم شرعي إلا وله حكم شرعي آخر، والذي اصطلح على تسميته أحكام الوضع، وما نقوله في الصلاة والزكاة نقوله في الحج والجهاد والنصر.
وحتى لا يبقى الحديث في عموميات، فإنّنا سنحصر حديثنا في بحث موضوع النصر، وهل يصح أن يقال إنّ للنصر أسباباً وشروطاً لا يتحقق إلا بها، وبالتالي فإنّ المكلف يقوم بها وهو يعلم أنّ المسبب سينتج منها وعنها حتماً، أم أنّ المكلف يقوم بالأعمال والأفعال التي طلبها الشارع دون النظر كونها أسباباً أم لا، بمعنى هل للمكلف مثلاً أن يتوسل بحفظ القرآن أو قيام الليل أو الجهاد وكلها مطلوبة شرعاً ويجعلها سبيلاً للنصر؟ بمعنى أوضح هل أعطاه الشارع الحرية في اختيار الأعمال والأفعال ينصبها سبباً أو طريقاً للنصر؟ وإذا كان الأمر غير ذلك، فهل هناك أعمال طلبها الشارع على وجه سببي لتكون طريقاً لحصول المسبب، وهو النصر؟ وهل يتعارض ذلك - أي جعل جمل من الأعمال سبباً للنصر - مع قوله سبحانه: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللهِ﴾؟
قلنا إنّ السببية أصل منذ خلق الله الدنيا ومَن عليها، فهي لا بد منها حتى ينتظم سير البشر على هذه الأرض، وليس في ذلك إلزام للخالق فعل شيء ولا مانع، إذن أن يربط الله النصر بأقوال وأفعال يتحقق النصر بها على وجه السببية، ما دام أنّه سبحانه لم يعط وعداً أو عهداً بوقت النصر وميعاده.
وهذا الضرب من الأفعال كثيرة أمثلته، فمثلاً طلب الله الزواج ليكون سبباً في الإنجاب، وبالتالي فإنّ الزوجين يقومان بالزواج سبباً في الإنجاب، مع علمنا أنّ الله وحده هو الذي يهب لمَن يشاء الذكور والإناث ويجعل مَن يشاء عقيماً، وأيضاً فإنّ الله سبحانه في أحكام شرعية كثيرة علل أفعاله بعلل شرعية، بمعنى أنّه أطلع المكلف على باعثه على تشريع الفعل، وليس في ذلك انتقاص من ألوهيته أو التعرض لشيء من صفاته، ولا يتعارض ذلك مع قوله: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾.
إذن فإنّ كون الخالق سبحانه يربط النصر بأعمال وأفعال على وجه سببي لا يخالف قوله: ﴿ومَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللهِ﴾، فإنّ الآية في موضعيها في آل عمران والأنفال تتحدث في إمداد المؤمنين بالملائكة في بدر، وأنّ الله لم يجعل هذا الإمداد إلا بشرى، فليست الملائكة سبباً في النصر، وإنّما النصر من الله وحده، وفي هذا عناية بالناحية الإيمانية عند المؤمن، وهذا لا يتعارض مع الأعمال والأقوال التي طلب الشارع من المكلف القيام بها على وجه سببي.
قلنا إنّ الشارع قد خلق الدنيا وضبط سيرها وسيّر مَن فيها من المخلوقات على وجه سببي، ولم تكن حركة الإنسان ببدع من هذا السير، بل إنّه سيّر حياته بأسباب لا تتحقق المسببات إلا بها، فإن حصل خرق لهذه القاعدة فإنّه يكون على خلاف الأصل كما ذكرنا في النقطتين، فالأسباب لا بد أن تنتج عنها مسبباتها، والمسببات لا تنتج إلا عن أسبابها.
وفي حالة النصر التي نحن بصدد توضيحها فإنّها من قبيل الأسباب والمسببات، مع استحضار الناحية الإيمانية أنّ النصر من عند الله وحده، بموعد وميقات محدد، وليست الأسباب بموجبة على الله النصر بوقت وميعاد. وبذلك يكون الجمع بين الناحية الإيمانية العقدية وبين التلبس بالأعمال التي لا يتأتى النصر إلا بها.
يقول الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله: "صحيح أنّ الله هو الفعال لما يريد، الخالق لكل شيء، ولكنّ الله جعل لهذا الكون نواميس يسير عليها، وجعل للأشياء قوانين تتشكل بحسبها وتتحول أو تبقى وفق هذه القوانين، وهو وإن كان قادراً على خرق هذه النواميس وتلك القوانين، ولكنّه لا يخرقها إلا لنبي، ولا ينقضها إلا لرسول، فالإيمان بأنّ الله قادر على نصر المؤمنين على الكافرين لا يعني أنّه سينصر المؤمنين وهم لا يأخذون بأسباب النصر، لأنّ النصر بدون الأخذ بأسبابه مستحيل، وقدرة الله لا تتعلق بالمستحيل، فكون الله قادر على الشيء لا يعني أنّ الفرد أو الجماعة أو الأمة قادرة عليه، فقدرة الله هي صفة خاصة به، وقدرة العبد خاصة به، ولا علاقة لها بقدرة الله، فالخلط بين قدرة الله والإيمان بها وقدرة العبد وقيامه بما أمر الله هو الذي يحمل على القعود، وهو الذي يخدر الأمم والشعوب، وإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ﴾".
قد يحصل أن يكون السبب مكوناً من أوصاف عدة لا يتحقق المسبب إلا بها مجتمعة، وإن لم تكن أمثلة ذلك في الفقه كثيرة، فمثلاً يقول الفقهاء: إنّ القود لا يكون إلا في القتل العمد العدوان، فلا يكون في القتل وحده، وإنّما يجب أن تجتمع هذه الصفات الثلاث، بمعنى أنّ هذه الصفات كلها هي التي تسمى سبباً، وإذا انفصل أحدها عن الآخر لا يقاد القاتل بمن قتله، فقد يكون القتل عمداً ولكن من غير عدوان؛ مثل قتل الخليفة رجلاً قصاصاً، فهذا القتل عمداً لكنّه ليس عدواناً، فلا يترتب عليه حكم.
أما في حالتنا - أي في حزب التحرير - فإنّ الحزب قد عمل منذ تأسيسه على تحقيق كل الأعمال والأفعال التي يتحقق بها النصر، وهي باجتماعها تصح تسميتها سبباً، فالتثقيف المركز والجماعي، وكشف الخطط، وتبني المصالح، وطلب النصرة، كل هذه مجتمعة هي سبب في النصر أو هي أوصاف إذا اجتمعت مع إحسان العمل بها كما أحسنها عليه الصلاة والسلام فإنّه ينتج عنها مسببها حتماً، مع استحضار الناحية الإيمانية بأنّ النصر من عند الله بوقته وميعاده، وليس تقديم الأسباب يوجب على الخالق فعل شيء.
بقيت مسألة أخيرة وهي قراءتنا لقوله سبحانه: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ في ضوء ما نريد إثباته وتوضيحه، فعلماء الأصول يقولون:
إنّ الشروط اللغوية هي على الحقيقة أسباب شرعية، بمعنى أنّ الله سبحانه قد طلب من الأعمال والأفعال الشرعية ما يصح تسميته سبباً، ولا يتحقق المسبب أي النصر إلا به، ونصرة الله على الحقيقة تكون بنصرة دينه أو شريعته كما قال ابن عباس وغيره، ويصبح المعنى أو التقدير إن تنصروا دين الله أو شريعته ينصركم، وهذا النصر لدينه وشريعته لا يتحقق كيفما اتفق، بل إنّه عليه الصلاة والسلام قد قام بأعمال خاصة هي سبب للنصر، من تثقيف وتفاعل وطلب للنصرة وغير ذلك.
فلا يصح أن يتوسل للنصر بأسباب انتقائية يختارها المكلف وفق هواه، ولا يصح خلط الناحية الإيمانية من أنّه سبحانه هو واهب النصر، وهو الذي بيده أن ينصر المسلمين، وبين ما هو مطلوب من الفرد أو الجماعة القيام به، فالله سبحانه لن ينزل ملائكة لتقيم الخلافة أو تحرر البلاد والعباد، وإن كان قادراً على ذلك، ولكنّه أجرى قانون السبية فانتظمت به الدنيا، ولن يخرقه، لا لحزب التحرير، ولا لغيره، ولسنا في زمن المعجزات والخوارق.
نسأل الله بمنّه وكرمه وفضله أن ينصر الأمّة بِنا، وأن يجعلنا سبباً في عزّها ومجدها، وأن يأخذ بيدنا إن نحن قصرنا، ويجعل لنا من أمرنا رشداً.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
خالد الأشقر (أبو المعتز بالله)