- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة الأستاذ أحمد القصص في المؤتمر العالمي "عام مضى أيتها الجيوش"
الذي عقدته قناة الواقية يوم الخميس 07 ربيع الآخر 1446هـ الموافق 10 تشرين الأول/أكتوبر 2024م
مسيرة المتاجرة بقضية فلسطين
منذ أن فتحت جيوش الخلافة فلسطين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصبحت جزءاً من دار الإسلام، واستمرت مئات السنين في كنف الأمّة الإسلامية. ولكنّها لم تكن كسائر بلاد دار الإسلام فقد امتازت عن غيرها بأنّها أرض مقدّسة تهوي إليها قلوب المؤمنين في أصقاع الأرض، فالمسجد الأقصى هو المسجد الذي أسري بالنبي ﷺ إليه وعُرج به منه إلى السماء ليلة الإسراء والمعراج. وهو ثالث المساجد التي تشدّ إليها الرحال بعد المسجد الحرام ومسجد النبي ﷺ، وهو قبلة المسلمين الأولى. وهو من المساجد التي تشدّ إليها الرحال، قال ﷺ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ؛ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى».
ولم يكن بيت المقدس مدار اهتمام المسلمين وحدهم، بل لطالما كان موضوع اهتمام أهل الديانات، ولا سيّما أهل الكتاب، قبل الإسلام وخلال التاريخ الإسلامي. فاليهود يدّعون الأحقّية فيه استنادا إلى قيام دولة بني إسرائيل فيه قبل ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة على أيدي أنبيائهم عليهم السلام، واستنادا إلى نصوص من توراتهم، وهم يرون أنّ قيام دولتهم على أرض فلسطين سنة 1948 هو تَحقّق لما وُعِدوا به. والنصارى يزعمون لأنفسهم حقّا في أرض فلسطين، من حيث هي مهد المسيح عليه السلام، واستنادا إلى هذا الزعم شنّوا حملاتهم الصليبية أواخر القرن الخامس الهجري، فاحتلوا شمال بلاد الشام وساحلها وصولا إلى بيت المقدس، وامتدّت تلك الحروب في بلاد الشام قرنين كاملين قبل أن يعود الصليبيون إلى بلادهم يجرّون أذيال الهزيمة.
ثمّ جاءت الحرب العالمية الأولى لتمتزج أحلام أحفاد الفرنجة الصليبيين مع أحلام يهود في بوتقة المشروع الصهيوني. فها هو الجنرال ألنبي قائد جيش الإنجليز الذي احتل فلسطين وسائر بلاد الشام يقول مقولته الشهيرة في احتفاله بدخول بيت المقدس: (الآن أعلن انتهاء الحروب الصليبية). وها هو الجنرال غورو قائد الجيوش الفرنسية التي احتلت القسم الشمالي من بلاد الشام يقف أمام قبر السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي متشمّتا ويخاطبه: (ها قد عدنا يا صلاح الدين). ثمّ بدأ لفيف يهود بالتوافد إلى أرض فلسطين تنفيذا لوعد بلفور وزير خارجية بريطانيا للحركة الصهيونية بإقامة وطن قومي ليهود على أرض فلسطين، وهو الوعد الذي تزامن مع سقوط القدس ومن ثمّ هزيمة الخلافة العثمانية أمام قوات الحلفاء بعد ذلك وانسحابها من بلاد الشام. فكانت نكبة المسلمين بسقوط فلسطين وضياع ثالث أراضيهم المقدّسة متزامنة مع أكبر كوارثهم على الإطلاق منذ بداية تاريخهم المديد، حيث اجتمعت مع نكبة إسقاط الرئاسة العامّة للمسلمين جميعا، ومع نكبة إقصاء شريعة الله عن حياتهم، وهي نكبات لم تجتمع على المسلمين جملة واحدة آخذة برقاب بعضها البعض طوال تاريخهم.
وعلى الرغم من فداحة هذه النكبات مجتمعة كان للقضية الفلسطينية مكانة جعلتها في مرتبة عالية في نفوس المسلمين في أصقاع الأرض، فاشتدت إليها القلوب والأبصار وتجنّد آلاف الناس لاستنقاذها من أيدي اليهود، وبخاصّة بعد أن نالت البلاد المجاورة لها استقلالها ولو شكليا، بينما سُلّمت فلسطين تسليم اليد باليد للحركة الصهيونية.
في خضّم هذه الأجواء وإزاء حالة الغضب التي اعترت المسلمين في العالم كلّه، ولا سيّما البلاد المحيطة بفلسطين، بلاد الشام والحجاز ومصر وغيرها، بدأت مسيرة التضليل ومتاجرة الحكّام العملاء بقضية فلسطين، ابتداء من الجيوش العربية السبعة التي علق عليها المشرّدون النازحون من ديارهم من أهل فلسطين الآمال، فإذا بهذه الجيوش تكون عونا ليهود على تثبيت أقدامهم في الأراضي المحتلة، مرورا بمؤتمرات جامعة الدول العربية التي كانت تعلن مرارا وتكرارا ونفاقا عزمها على دحر الاحتلال وإصرارها على تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، ومن ثمّ إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وإعلانها الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ليتنصّل حكّام الضرار والعمالة من مسؤوليتهم الشرعية في وجوب تحرير الأرض المحتلة، ولتتسابق بعد ذلك الأنظمة العربية على دعم الفصائل الفلسطينية المتعددة بالمال والسلاح والغطاء السياسي من أجل المتاجرة بقضية فلسطين وإيهام شعوبها بأنها تقدم المعونة للفدائيين، وصولا إلى اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة الاحتلال المزعومة وقيام ما يسمى بالسلطة الفلسطينية في رام الله.
وخلال تلك العقود المريرة كان من أعظم الجرائم التي ارتكبتها الأنظمة المتعاقبة على الحكم في معظم البلاد العربية اتّخاذها قضيّة فلسطين وسيلة للتسلّط على البلاد والعباد ولقمع كلّ صوت معارض لها، بذريعة أنّها أنظمة ثورية قامت لمواجهة الاستعمار والوقوف في وجه المشروع الصهيوني والكذب على الشعوب بأنها جنّدت نفسها لتحرير فلسطين، وبالتالي فإنّ كلّ من يعارضها يكون عميلا للصهاينة والاستعمار.
هذا ما فعله النظام المصري زمن عبد الناصر، والنظام الليبي زمن القذّافي، وأنظمة سوريا الانقلابية المتعاقبة وصولا إلى حكم آل أسد، والنظام العراقي زمن حكم البعثيين. أمّا دول الخليج فكان موكلا إليها إمداد المنظّمات الفلسطينية المتنافسة بالأموال لاستقطابها واستيعابها وابتزازها. وكان يقع على عاتق الأسرة الهاشمية الحاكمة في الأردنّ أن تتولّى قمع الجزء الأكبر من اللاجئين من أرض فلسطين المحتلّة إلى الضفّة الشرقية لنهر الأردنّ.
وفي التسعينات من القرن الماضي جاء دور النظام القطري والنظام التركي لاحتواء الفصائل الفدائية التي اتّخذت الطابع الإسلامي بعد مساكنة منظّمة التحرير لكيان يهود.
أمّا الدور الأكبر والأخير وربما الأخطر فكان دور نظام طهران. إذ كان الأبرع في المتاجرة بقضية فلسطين. فهو نظام ذو طابع ديني، وأنشأ يوماً سنويا للقدس، وأنشأ في الحرس الثوري فرقة سماها فيلق القدس، وأنشأ في لبنان إلى جانب الحدود الشمالية لفلسطين المحتلّة مليشيا مسلّحة اسمها (حزب الله)، قاتلت الاحتلال في جنوب لبنان حتّى اضطر الاحتلال سنة 2000 إلى الانسحاب إلى ما وراء الحدود، الأمر الذي شدّ انتباه المسلمين والثوريين التوّاقين إلى تحرير فلسطين من كل أنحاء العالم. وأغرى نظام طهران الفصائل المقاومة بالدعم بالمال والسلاح والتدريب والخبرات العسكرية، فاندفعت هذه الفصائل إلى الارتماء في حضنه والتعويل عليه، إلى أن جاءت عملية طوفان الأقصى التي ضعضعت كيان يهود وألقت في قلوبه الرعب، وظن المجاهدون أن هذه العملية ستحفّز نظام طهران ومليشياته على إعلان المعركة الفاصلة لتحرير فلسطين، فكانت الصدمة أنّ هذا النظام لم يحرّك ساكنا، وأوعز إلى مليشياته بأن تقوم بعمليات رشق محدودة سمَّوها عمليات مساندة، وهي عمليات لم تسمن ولم تغن من إجرام الاحتلال شيئا، وبقيت غزّة وحدها تتلقّى المجازر والدمار والتشريد والأهوال طوال سنة كاملة، حتّى وقع حزب إيران في فخّ "الصبر الاستراتيجي". فبعد أن بلغ تدمير غزّة مداه أتى عليه الدور ليذوق ما ذاقه أهل غزّة من المجازر والتشريد، وأيقن قادته أنّ هلاكهم كان في صبرهم الاستراتيجي والانصياع للأوامر الإيرانية بالتزام قواعد الاشتباك. هذا كلّه ليوقن المقاومون والمجاهدون وسائر المسلمين بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾.