الفراغ السياسي في الموقف الدولي
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
"القسم الأول: هل يمكن أن يحدث فراغ سياسي في الموقف الدولي؟"
ونعني بذلك هل يمكن أن يحدث أن تسقط الدولة الأولى في العالم ومن ثم لا توجد دولة تملأ هذا الفراغ فيصبح العالم من دون دولة أولى وتبقى هناك دول كبرى على مستوى متقارب لا تستطيع إحداها أن تملي سياساتها على الآخرين وبذلك لا يمكن أن يتخذ قرار في مجلس الأمن ولا تستطيع أية دولة أن تتصرف منفردة لتملي سياستها على العالم، ولكل دولة كبرى تأثيرها على منطقتها فحسب ولا تخضع للأخرى؟ أي إذا سقطت أمريكا عن مرتبة الدولة الأولى والدول التي تعتبر حاليا كبرى وهي روسيا وبريطانيا وفرنسا بالإضافة إلى ألمانيا المرشحة لأن تصبح دولة كبرى فهل إحدى هذه الدول مؤهلة في الوقت الراهن لأن تصبح الدولة الأولى؟ فإن لم تكن مؤهلة لأن تصبح الدولة الأولى أو تملأ الفراغ الذي أحدثه سقوط أمريكا فكيف سيكون الموقف الدولي؟ وهل ستكون هناك فرصة للأمة الإسلامية لأن تتبوأ هذا المكانة؟
ونجيب على هذه التساؤلات على الشكل التالي:
إن الدولة الكبرى هي التي تملك التأثير في الموقف الدولي بحيث يكون لها دور في تقرير مصير الدول الأخرى وقضاياها.
والدولة الكبرى الأولى هي التي تملك التأثير الرئيس في الموقف الدولي فتخضع دول العالم لقراراتها بما فيها الدول الكبرى الأخرى.
مع العلم أن الدول الكبرى تعمل على مزاحمة بعضها بعضا لتتفوق كل واحدة على الأخرى لتبلغ الدرجة الثانية، كما تعمل على مزاحمة الدولة الأولى في محاولة منها لتصل إلى هذه المكانة، وتحسب لها الدولة الأولى حسابا فتحاول أن تقضي عليها لتسقطها أو توجه لها ضربة قوية تمنعها من مزاحمتها، وإذا لم تستطع ذلك تعمل على ترضيتها بالطرق التالية:
1) إما بتقاسم العالم معها كما حصل على عهد الاتحاد السوفياتي منذ عام 1961 حيث اضطرت أمريكا لأن تتقاسم النفوذ في العالم معه، وتتبع معه سياسة الوفاق الدولي فلا تسير في عمل دولي دون التنسيق معه، لأنها لم تستطع أن تقضي على الاتحاد السوفياتي ولم تستطع أن توجه له ضربة قاضية تسقطه عن مكانته وتبعد خطر مزاحمته لها حينذاك.
فبقيت تعمل بشتى الأساليب والوسائل على إسقاطه وتتبع أساليب في ذلك مثل سباق التسلح وما أطلق عليه حرب النجوم وكذلك إثارة المشاكل الداخلية ودعم الانفصاليين ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وأخيرا استغلال حرب أفغانستان التي كانت القشة التي كسرت ظهر البعير.
فسقط الاتحاد السوفياتي سقوطا مدويا ولم تقم له قائمة، وسقطت معه الشيوعية التي كان يستند إليها، وليس في الاتحاد السوفياتي فحسب، بل في كل العالم كله بحيث تخلى أصحابها عنها، وإن أبقاها البعض كما في الصين اسما ممثلة بالحزب الشيوعي ليحافظوا على مصالحهم وعلى كيان دولتهم.
2) وإما بإشراكها في الأعمال الدولية باعتبارها دولة كبرى كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية، فكانت أمريكا تشرك الدول الكبرى الأخرى مثل بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي كدول كبرى لتسير شؤون السياسة الدولية، فشكلت مع هذه الدول الأمم المتحدة ومجلس الأمن والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وكذلك المنظمات الدولية الأخرى.
وعقدت المؤتمرات الدولية للنظر في قضايا العالم. ومثل ذلك فعلت بريطانيا عندما كانت الدولة الأولى في العالم عقب الحرب العالمية الأولى حيث رسمت خارطة العالم الإسلامي بعد سقوط الدولة العثمانية مع فرنسا وبإشراك روسيا في معاهدة لوزان بناء على ما خططت من قبل في اتفاقية سايكس بيكو.
وبعد الحرب العالمية الأولى شكلت عصبة الأمم المتحدة وعقدت مؤتمر السلام في فرساي.
3) وإما بإشراكها في أعمال جزئية وتعطيها اعتبارا دوليا حتى تتمكن من تنفيذ سياستها أو التغطية على سياستها أو لتحول دون تشويش إحداها عليها كما تفعل حاليا أمريكا مع الدول التي توصف بالكبرى من روسيا إلى بريطانيا وانتهاء بفرنسا.
فلا تلجأ أمريكا إليها إلا للتغطية على سياستها كما تفعل في سوريا فتضع روسيا في الواجهة وتعتبرها معرقلة للتوصل إلى حل لإخفاء حقيقة أن أمريكا هي صاحبة القرار وهي التي تؤخر الحل حتى تجد البديل. وبذلك تعطي روسيا هذا الدور الظاهري الذي يخدع بعض الناس.
ومن جانب روسيا فإنها تطمئن نفسها بهذا الدور لتشبع رغبتها في أن تكون دولة كبرى لها اعتبار عالمي وهي تدرك تلك الحقيقة بدليل أن العالم عندما قال إن روسيا طرحت مبادرة للحيلولة دون الضربة الأمريكية على سوريا بسبب استعمال النظام للسلاح الكيماوي قالت روسيا على لسان وزير خارجيتها لافروف أن هذه المبادرة كانت بالتنسيق مع أمريكا.
بل هي أمريكية وتبنتها روسيا وقبلها النظام السوري فورا لأنه كان على علم بها كما صرح رئيس النظام في مقابلة مع إحدى القنوات التلفزيونية المؤيدة لنظامه.
وكذلك فإنها جذبت فرنسا إلى جانبها وكأنها أعطتها اعتبارا دوليا لتدعمها في توجيه ضربة إلى سوريا بعد استخدام النظام السوري للكيماوي في الغوطة في 2013/8/21م فصدقت فرنسا ذلك وانجرفت انجرافا تاما نحو العمل مع أمريكا للتدخل في سوريا، سيما وأن فرنسا تحب التدخل المباشر دائما لتشبع شهوتها في الظهور وحب العظمة، وعندما أرادت أمريكا أن تلتف على قرارها وتتخلى عن الضربة أو تؤجلها قام وزير خارجية أمريكا جون كيري وأعلن في مؤتمر صحفي بلندن مع وزير خارجية بريطانيا مظهرا أنه يعطي لبريطانيا التي عملت على التشويش على قرار أمريكا بتوجيه ضربة لسوريا عندما جعلت برلمانها يظهر عدم موافقته على الاشتراك مع أمريكا لتوجيه ضربة لسوريا كأنه يعطيها قيمة أكبر مما يعطي لفرنسا وتناسى الأخيرة التي أعلنت تأييدها لأمريكا والاستعداد لمشاركتها في الضربة.
فلم يأت وزير خارجية أمريكا إلى باريس ليعلن من هناك الالتفاف على قرار بلاده وليظهر كأنه تشاور مع فرنسا في ذلك حتى لا يعطي لفرنسا قيمة أكبر من حجمها.
مما يدل على أن أمريكا تستعمل فرنسا لعمل دولي جزئي وسرعان ما تتخلى عنها إذا رأت مصلحتها في مكان آخر ولا تتأسف على تركها، لأنها لا تريد أن تعطيها قيمة واهتماما أكبر مما تستحق، ويدل ذلك على مدى صغر حجم فرنسا الدولي بأنها لم تستطع أن تحتج على أمريكا وتعمل شيئا مؤثرا عليها مقابل ما فعلت أمريكا تجاهها.
فأمريكا لا تعطي أية قيمة دولية لا لروسيا ولا لفرنسا ولا لبريطانيا إلا إذا احتاجت إليها للتغطية على خططها أو لمنع التشويش عليها أو لحشد الرأي العام العالمي إلى جانبها.
ولذلك وقف جون كيري في مؤتمره الصحفي في بريطانيا ليعلن التفاف بلاده على قرارها من هناك وكأن تراجع بلاده عن قرارها سببه الموقف البريطاني.
مع العلم أن تراجع أمريكا عن قرارها لم يكن للموقف البريطاني أي تأثير فيه، ولو أصرت أمريكا على تنفيذ قرارها لرأينا مجلس العموم البريطاني يجتمع مرة أخرى ليقرر مشاركة بريطانيا في الضربة على سوريا، خاصة وأن قرار مجلس العموم تضمن عبارة تشير إلى أنه من الممكن أن يراجع قراره في حال تطور الأحداث، وهذا ما رأيناه في غزو العراق حيث عارض مجلس العموم البريطاني الغزو قبل بدئه، وبعدما اتخذت أمريكا قرارها بتنفيذ الغزو اجتمع هذا المجلس ووافق على اشتراك بريطانيا في الغزو في مدة أقل من يوم.
ويظهر أن تراجع أمريكا عن الضربة كان بسبب ما رأته من أن توجيه مثل هذه الضربة إلى النظام السوري ربما تسقطه قبل الأوان وقبل إيجاد البديل، وخاصة أن رجال النظام ظهر الفزع عليهم وبدأوا بالفرار وخافوا أن يتكرر معهم السيناريو الذي سرى على رفاقهم البعثيين في العراق عند احتلال أمريكا لها وقضائها على حزب البعث وعلى صدام وعلى نظامه.
مع أن صدام وحزب البعث قدموا التنازلات لأمريكا في كل ما طلبته مقابل أن تبقيهم في السلطة فقط.
وهم في سوريا يدركون بأن أمريكا في أية لحظة سوف تتخلى عنهم وتأتي بعملاء بدلاء عنهم.
وهم قد رأوا كيف أنها تخلت عن أخلص عملائها في مصر؛ حيث تخلت عن حسني مبارك وعن أولاده وعن عمر سليمان وعن طنطاوي وسامي عنان، وأتت بمرسي ومن ثم أدارت ظهرها له.
فما يهم أمريكا هو مصالحها لا غير، وهؤلاء العملاء لا قيمة لهم عندها إلا بمقدار ما يستطيعون أن يقدموا لها من خدمات لا تدفع أجرها، بل هم مقابل أن تبقيهم في السلطة يسرقون قوت شعوبهم ويسلمونها ثروات بلادهم، وهم جبناء إلى أبعد الحدود يخافون أية حركة ضدهم إذا لم تقف أمريكا معهم وتسندهم، ويخضعون لأي ضغط يمارس عليهم ويخافون من أي تهديد يوجه إليهم، فهم مسلوبو الإرادة، وبذلك أصبحوا أذلاء وانحدروا إلى درك العبيد، بل أدنى من ذلك، لأنهم لا يملكون حق المكاتبة للخلاص من العبودية فمصيرهم إما القتل أو النفي أو السجن أو الرمي بهم على قارعة الطريق أو الفرار والاختباء في جحر أو مكان آخر إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فيعتقدون أن مصيرهم بيد أسيادهم في الدول الكبرى، وخاصة أمريكا الدولة الأولى في العالم.
وهم لا يتعظون من مصير أقرانهم في كل بلد، بل يتفاخرون بأنهم شطار برغماتيون يسيرون حسب الواقع وحسب ما تمليه الظروف عليهم لتحقيق مصالحهم الآنية، ويستهزئون بالسياسيين العقائديين بأنهم يسبحون في الخيال.
وبذلك لا شأن لدولهم في الموقف الدولي، بل هي خاضعة للدول الكبرى خضوعا تاما وخاصة لأمريكا الدولة الأولى في العالم.
فالدولة الكبرى يكون لها نفوذ في مناطق بالعالم حيث يؤهلها ذلك لأن تصبح ذات تأثير دولي، ولا تتوقف عن السعي لتوسيع دائرة نفوذها حتى تزيد من هذا التأثير.
فإذا توقفت عن ذلك فإنها سوف تنحسر حتى تضمر إلى أن تخرج من الحلبة الدولية كما حصل مع الدول الأوروبية المستعمرة الأخرى التي كان لها شأن دولي في فترة من الفترات عندما كان لها نفوذ في الدول الأخرى.
فرصيد الدولة الكبرى للمنافسة الدولية وللتأثير في السياسة الدولية ولمزاحمة الدولة الأولى في العالم هو ما لديها من نفوذ في مناطق مختلفة من العالم فعندئذ يكون لها عملاء وأتباع ومن يدور في فلكها فينفذون سياستها أو يسهلون تنفيذها أو يظهرون التأييد لها، بالإضافة إلى ما لديها من إمكانيات أخرى للتأثير مثل القوة العسكرية التي ترعب الآخرين، ومن القدرات الاقتصادية التي تؤثر في اقتصاديات العالم.
فكلما اتسعت دائرة النفوذ ازدادت قوة التأثير لدى الدولة، فإذا لم يكن لها نفوذ في الدول الأخرى تقل قوة تأثيرها الدولية وتضعف.
مع العلم أن الموقف الدولي هو هيكل العلاقات الدولية المؤثرة، أي الحالة التي تكون عليها الدولة الأولى والدول التي تزاحمها.
فروسيا على عهد الاتحاد السوفياتي كانت دائرة نفوذها واسعة تشمل منطقة القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان وأوروبا الشرقية وكانت تهدد أوروبا الغربية، فمن حيث الجغرافيا كانت مسيطرة على مساحات واسعة من العالم، وكانت تعمل على توسيع دائرة نفوذها في جنوب آسيا وجنوب شرق أسيا والشرق الأوسط وفي أفريقيا، وكان لديها قوة عسكرية مرعبة، حتى اضطرت أمريكا الدولة الأولى إلى أن تتقاسم معها النفوذ وتتبع معها سياسة الوفاق الدولي.
وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي انحسرت دائرة نفوذ روسيا في أوروبا الشرقية وفي البلقان وفي غيرها من المناطق ولم يبق لها سوى نفوذ في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وأصبحت مهددة في هذه المناطق. ولهذا ضعف تأثيرها في الموقف الدولي وضعفت مزاحمتها للدولة الأولى في العالم وبدأت تسعى لدى أمريكا حتى تعطيها اعتبارا دوليا لتشركها في قضايا العالم ولو كان شكليا.
وبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية بدأ يتقلص نفوذها وتغيب شمسها عن كثير من المناطق التي كانت تستعمرها، وبذلك بدأ تأثيرها يضعف، فلو أن أمريكا التي أصبحت الدولة الأولى في العالم قامت وعزلت بريطانيا أو أبعدتها عن الساحة الدولية يومئذ لما بقي لبريطانيا نفوذ، لأن الأخيرة أصبحت محتاجة للأولى وقد احتاجت إليها في الحرب العالمية الثانية ولولا مساعدة أمريكا لها لما تمكنت من هزيمة ألمانيا، بل ربما أصبحت محتلة كفرنسا.
ولكن أمريكا يومئذ لم ترد إنهاء الوجود البريطاني عن الساحة الدولية وإبعاده عن السياسة الدولية لأمور معينة تخصها؛ منها أنها كانت تتبع سياسة العزلة وكانت تعيش مرحلة الخروج من هذه العزلة بعد التردد الذي سادها في الخروج منها أو عدمه، ولم تكن على دراية تامة بالسياسة الدولية وبمكائد بريطانيا عندما خرجت من عزلتها، وكان لبريطانيا تأثير على حكام أمريكا وقتئذ، ولم تكن لديها التجربة والعراقة في السياسة الدولية، ولذلك أعطت لبريطانيا بعد الحرب اعتبارا فأسست معها مجلس الأمن والأمم المتحدة وأشركتها في المؤتمرات الدولية.
ولكن بعدما حصلت لديها التجربة وصار لديها دراية بهذه السياسة وأدركت مكر بريطانيا وخبثها التي كانت تعمل على الإيقاع بها لإضعافها في الموقف الدولي كما حصل في الحرب الكورية وفي المؤتمرات الدولية، فقررت الاتفاق مع الاتحاد السوفياتي عام 1961، وعندئذ لم تعد تشرك بريطانيا في إدارة شؤون العالم بل شنت عليها حملة لتنهي وجودها في العالم. فنتج عن ذلك تقلص نفوذ بريطانيا حتى غدت كأنها تابعة لأمريكا تنافق لها وتعمل في الخفاء ضدها وتشوش عليها بأساليب خبيثة.
فأصبح نفوذ بريطانيا متقلصا جدا، وأصبحت إمكانياتها ضعيفة لأنها جزيرة تعتمد على مناطق نفوذها في مستعمراتها السابقة، ولم تعد لدى سياسييها القدرة على إنتاج وتسويق سياسات جديدة بمقدورهم أن يعيدوا بلادهم إلى سابق عهدها أو حتى إلى مركزها الدولي الذي كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية حتى الاتفاق الأمريكي السوفياتي أو حتى فترة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 حيث قررت حينها اتخاذ سياسة عدم مواجهة أمريكا علنا سواء في الساحة الدولية أو مناطق النفوذ الأمريكي.
وبذلك لم يبق لدى السياسيين البريطانيين سوى الخبث والنفاق عاجزين عن المواجهة وعن طرح المبادرات وتنفيذها وفرضها على الآخرين، ففشلت كافة مبادراتهم وخططهم تقريبا سواء في قضية الشرق الأوسط أو في البلقان أو في العراق أو في السودان وفي غيرها من دول أفريقيا أو في أوروبا وفي الاتحاد الأوروبي بالذات.
وإذا قدموا مبادرة أو رسموا خطة فيها قابلية النجاح تقوم أمريكا وتحتويها وتعدلها وتصوغها حسب مشاريعها وتعمل على إبعاد بريطانيا عنها مثلما فعلت في اتفاقية أوسلو ووادي عربة، وكما فعلت في حل مسألة البوسنة حيث أخذت أمريكا خطة بريطانيا وفرضتها على الأطراف الثلاثة المسلمين والصرب والكروات في دايتون على عهد بيل كلينتون، وأبعدت بريطانيا إبعادا تاما عنها.
فأمريكا تدرك خبث بريطانيا ومكرها، ولذلك هي منتبهة لها ولا تجعلها تتمكن من فعل شيء، وإذا أرادت أن تتفلت منها تلاحقها.
وقد لاحقتها في مستعمراتها وفي مناطق نفوذها بل في عقر دارها حتى تمزقها وتقضي عليها كدولة كبرى نهائيا.
وبريطانيا ليست ناجحة في الاتحاد الأوروبي فلم تستطع أن تأخذ قيادته ولم تستطع توجيهه أو تسخيره كما كانت تخطط، وهي خائفة على هويتها القومية وعلى تقاليدها إذا ما قررت الاندماج في أوروبا.
وهي دائما تهدد بالخروج من هذا الاتحاد لابتزازه.
ولهذه الأسباب لا يثق بها الأوروبيون وأظهروا امتعاضهم من تصريحات وزير خارجيتها وليم هيغ التي وصف بها الاتحاد الأوروبي ببيت يشتعل وليس فيه منافذ للخروج.
وروسيا لا تثق ببريطانيا وتدرك مكرها وخبثها فلا تنجر وراءها وهي تهاجم بريطانيا علنا إذا ما رأت منها عملا يستهدفها مثلما حصل في موضوع الشيشان.
وقد فقدت كثيرا من مناطق نفوذها في العالم، وخاصة في البلاد الإسلامية، والأمة الإسلامية أصبحت أكثر وعيا على أساليب بريطانيا وإذا تمكنت من إسقاط الأنظمة المسلطة عليها والعميلة الباقية لبريطانيا بجانب الأنظمة العميلة لأمريكا، عندئذ لن تتمكن بريطانيا من فعل شيء أمام هذا الواقع إلا القيام بأعمال الخبث والنفاق.
فمصيرها كدولة كبرى مهدد بالسقوط بشكل جدي، بل إن وجودها كدولة في حدودها الحالية مهدد بالزوال إذا ما انفصلت أسكتلندا وأيرلندا الشمالية.
وعلى ضوء ذلك فإنه إذا سقطت أمريكا عن مركز الدولة الأولى فمن الصعب أن تملأ بريطانيا الفراغ وهي في هذه الحالة لتحل محلها وخاصة أنها تعتمد على مناطق نفوذها وعلى الاستعانة بالآخرين للقيام بالأعمال الدولية، مثلما كانت تستعين بفرنسا سابقا ومن ثم استعانت بأمريكا في الحربين العالميتين.
وأما فرنسا فقد تقلص نفوذها أيضا عندما فقدت كثيرا من مستعمراتها في جنوب شرق آسيا وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأصبحت تطارد من قبل أمريكا حيثما كانت تستعمر وخاصة في غرب ووسط أفريقيا.
فاضطرت في بداية الستينات من القرن الماضي إلى أن تعطي كافة البلاد التي كانت تستعمرها مباشرة استقلالها الشكلي وبدأت تفقد نفوذها في كثير منها.
وبذلك بدأ تأثيرها الدولي يضعف فلم تعد تشركها الدولة الأولى في إدارة شؤون العالم منذ بداية الستينات من القرن الماضي.
وحاولت في تلك الفترة على عهد ديغول أن تقوم بأعمال لتزحزح أمريكا عن موقعها، ولذلك عملت على توحيد أوروبا تحت قيادتها، وانسحبت من القسم العسكري من الناتو عام 1966 حتى لا تسير تحت قيادة أمريكا، وقامت بإجراء التجارب النووية فطورت أسلحتها وقدراتها النووية.
وكذلك قامت باستئناف هذه التجارب النووية على عهد شيراك لتذكر الناس بأنها دولة كبرى يجب أن يعطى لها اهتمام دولي بعدما تم تناسيها في الموقف الدولي وخاصة على عهد ميتران الذي سار في خط موافق للسياسية الأمريكية.
وحاولت على عهد شيراك أن تقوم بأعمال من شأنها أن تؤثر على الدولة الأولى في العالم عندما شكلت محورا مع ألمانيا وروسيا، وقامت واستغلت الوضع في لبنان الذي نشأ عقب مقتل الحريري فأثرت على النفوذ الأمريكي فيه، وذلك بإجبار النظام السوري العميل لأمريكا على الانسحاب.
ومنذ ذهاب شيراك إلى اليوم وهي في حالة تراجع في الموقف الدولي لضعف سياسييها وضعف إمكانياتها، وهي مطاردة من قبل أمريكا في مناطق نفوذها بعدما فقدت الكثير منها، وقد أظهرت خضوعا لأمريكا عندما قررت على عهد ساركوزي عام 2009 العودة للجناح العسكري للناتو، فقد قام جون مارك إيرد رئيس مجموعة الاشتراكيين في الجمعية الوطنية الفرنسية وقيم يومها هذه العودة وموقف فرنسا بقيادة ساركوزي قائلا: "إن ذلك من شأنه أن يفقد فرنسا استقلاليتها وأنها لن تكتسب من خلال هذا الإجراء قوة مشيرا إلى أن الكلمة الأخيرة فيما يتعلق بالقرارات العسكرية والاستراتيجية ستكون للولايات المتحدة".
ويظهر أنه لم يعد لديها أمل في تأسيس الجيش الأوروبي.
ومن جانب آخر أظهرت خضوعا لألمانيا في الناحية الاقتصادية ووافقت على سياسة التقشف والمراقبة التي دعت لها ألمانيا وفرضتها على منطقة اليورو وعندما جاء رئيسها الجديد أولاند وقد وعد في حملته الانتخابية بالتخلص من ذلك ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئا.
ولهذا فإنه من الصعب أن تملأ فرنسا الفراغ وهي في هذه الحالة إذا ما سقطت أمريكا عن مكانتها العالمية في الموقف الدولي.
ولم تستطع لا هي ولا غيرها أن يستغل فرصة تفجر الأزمة المالية العالمية في أمريكا عام 2008 والتي هزت وضع الأخيرة الدولي.
وقد دعا رئيسها ساركوزي حينما تفجرت هذه الأزمة إلى إيجاد نظام مالي واقتصادي جديد، ولكنه لم يطرح أية فكرة واضحة لذلك، ولم يتمكن من عمل أي شيء سوى هذه التصريحات التي لم توضع موضع التطبيق.
ولم تستطع بلاده أيضا أن تستغل اهتزاز الموقف الأمريكي عندما تعرضت لضربات مؤلمة في العراق وأفغانستان وتقوم بحملة عالمية ضدها لتواصل عملها الذي بدأته عام 2003 في محاولة لزحزحة أمريكا عن مركزها الأول في الموقف الدولي.
ولهذا فإنه ليس من المتوقع أن تملأ فرنسا الفراغ إذا ما سقطت أمريكا في هذه الفترة عن مركز الدولة الأولى في العالم.
وأما ألمانيا فقد ضرب نفوذها كليا عند هزيمتها في الحرب العالمية الثانية ووقعت تحت الاحتلال من قبل القوات الغالبة وقسمت فلم يعد لها أي تأثير في الموقف الدولي.
فوقع القسم الشرقي تحت هيمنة روسيا والقسم الغربي تحت هيمنة أمريكا حتى عام 1990 حيث عادت وحدة ألمانيا بموافقة أمريكا التي جعلت ألمانيا مقابل ذلك توقع على وثيقة تتعهد فيها على عدم تطوير أسلحة استراتيجية سواء أكانت نووية أم كيماوية أم بيولوجية.
وقد بدأ موقفها الإقليمي والدولي يقوى نوعا ما في العقد الأخير.
فغدت في أوروبا دولة مؤثرة إقليميا وخاصة من ناحية اقتصادية حيث تمكنت من فرض سياسة التقشف والرقابة على منطقة اليورو، وهذا ينعكس على التأثير السياسي لها في هذه المنطقة ولكنها ما زالت ضعيفة من ناحية التأثير السياسي عالميا.
وظهرت منها حركة مؤقتة على عهد رئيس وزرائها شرودر حاولت فيها أن تكون مؤثرة دوليا عندما سارت مع فرنسا لتشكلا محورا مع روسيا للوقوف في وجه أمريكا الدولة الأولى مستغلة غزو الأخيرة للعراق.
ولكن بعد ذهاب شرودر لم تستمر هذه الحركة، مما يدل على أن الشعور بأن تصبح ألمانيا دولة كبرى عالميا لم ينمُ بعد بالشكل الذي يساعد على الاستمرار، فلو تركز ذلك لقام الذين جاؤوا من بعده وواصلوا العمل على ذلك.
فلم يستمر ذلك في حزب شرودر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي شكل ائتلافا مع الحزب المسيحي الديمقراطي ولم يضغط الحزب الأول على الحزب الثاني ليواصلوا ذاك النهج الذي انتهجه شرودر.
والحزب المسيحي الديمقراطي لم يتبن تلك السياسة، وإنما ركز على الاقتصاد كعادة الحكومات السابقة.
والدولة التي تركز على الاقتصاد فقط من دون أن تتبع ذلك بأعمال سياسية دولية قوية ومن دون العمل على إيجاد قوة عسكرية بغرض تقوية تأثيرها السياسي في الموقف الدولي لا يمكن لها أن تصبح دولة مؤثرة عالميا، وبالتالي لا تصبح دولة كبرى.
وألمانيا منذ سنين طويلة وهي تعتبر قوة اقتصادية كبرى ولكنها لم تصبح دولة كبرى مؤثرة في الموقف الدولي.
فلم تكبر الفكرة بعد لدى الألمان حتى يصبحوا دولة كبرى.
ويظهر أنهم ما زالوا يتحسسون كيفية الصيرورة كدولة كبرى عالميا، وعلى ما يظهر أن البعض من سياسييهم ما زال يظن أن الهيمنة الاقتصادية على أوروبا كافية لأن تجعل ألمانيا دولة كبرى، فقد صرحت رئيسة الوزراء ميركل أثناء حملة الانتخابات الأخيرة بأن ألمانيا أصبحت المحرك الرئيس في أوروبا.
فيكتفون بأن يكونوا قوة اقتصادية كبرى فهذا يشبع غرورهم وتطلعاتهم وأحاسيسهم القومية.
فهم لا يعملون على تهيئة الشعب لخوض الحروب الخارجية وإحياء الروح القتالية فيه حتى يستعدوا لبناء قوة عسكرية مرعبة، سيما وأن ذكريات الحرب العالمية الثانية وما تعرض له الشعب الألماني من جرائها وتداعياتها ما زالت حية في عقولهم، وتقوم جهات معينة بالتذكير بها باستمرار وخاصة في الإعلام وذلك لتنفير الناس من الحروب حتى لا تتجه ألمانيا نحو بناء هذه القوة العسكرية.
ولهذا السبب فإنه من غير المحتمل في هذه الظروف أن تملأ ألمانيا الفراغ في الموقف الدولي إذا ما سقطت أمريكا عن مركزها الدولي.
وأما اليابان فقد أصبحت لفترة قصيرة دولة كبرى قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية.
وبعد أن هزمت في هذه الحرب وأعلنت استسلامها لأمريكا عندما ضربتها بالقنابل النووية وفرضت عليها قيودا كبلتها وشلت تفكيرها فلا تعرف طريقا لكسرها، وركزت على الاقتصاد فأصبحت قوة اقتصادية كبرى.
ولكن لم تستطع أن تصبح دولة كبرى مؤثرة في الموقف الدولي، بل لم تستطع أن تكون دولة كبرى إقليميا.
ولا توجد مؤشرات قوية تشير إلى أن هناك حركة جادة لأن تعود اليابان دولة كبرى مؤثرة عالميا.
وقد استطاعت أن تصبح دولة كبرى في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها واحتلت الصين التي كانت ضعيفة ومتأخرة جدا، والآن وقد أصبحت الصين أقوى من اليابان عسكريا ونمت اقتصاديا وصناعيا على مستوى ينافس اليابان ولديها القدرات العسكرية لأن تواجه اليابان إذا ملكت قوة عسكرية هجومية، ففي هذه الحالة لا يمكن أن تقدر اليابان على أن تفعل كما فعلت قبل الحرب العالمية الثانية حتى لو أتيحت لها الفرصة أن تفلت من قبضة أمريكا لأن الصين ستقف لها بالمرصاد في منطقة بحر الصين الشرقي، وروسيا في شمالها ستتوافق مع الصين عليها إذا أرادت أن تستعيد مناطق نفوذها في تلك المنطقة وهي على خلاف مع روسيا على جزر الكوريل.
وأما الصين فإن سياستها الخارجية لا تقوم على أساس نشر الشيوعية في العالم، وذلك راجع إلى واقع شعب الصين، الذي كان يكتفي بالنفوذ في الجوار الآسيوي، ولم يكن عبر التاريخ يتطلع إلى أن يكون ذا نفوذ عالمي.
وبسبب واقع الشعب الصيني هذا لم تَسْعَ الصين يوماً إلى تأهيل نفسها وطاقاتها لكي تتبوأ موقعاً مؤثراً في السياسة العالمية، ولا زالت كل أعمال الصين منصبةً على إيجاد نفوذ إقليمي لها في الجوار، ويبدو أنها تخلت عن مبدئيتها وأصبحت شيوعية اسما وبالحزب الشيوعي الحاكم الذي يسعى للحفاظ على مصالحه وعلى كيان الدولة، وإذا فقدت التظاهر بالصفة الشيوعية وسقط تفرد الحزب الشيوعي في السلطة فإن مصير الصين من المحتمل أن ينقلب وتتمكن أمريكا من داخلها إذا بقيت أمريكا على ما هي عليه حاليا، فتبدأ باللعب في الداخل عن طريق إيجاد القوى والأحزاب الديمقراطية المختلفة التي ستظهر فجأة وبسرعة، لأن هناك ميولا نحو تأسيس ذلك والتوجه نحو أمريكا مما يقوي النفوذ الأمريكي عالميا.
ولكن إذا بقيت الصين على شكلها الحالي وإن كانت تسير في خط موافق لأمريكا في المنظومة الاقتصادية العالمية ولا تعمل على مزاحمة أمريكا، وكل ما تعمله هو محاولات منها لتبسط نفوذها على منطقتها في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، ولم تتمكن من السيطرة على هاتين المنطقتين.
وفي المقابل تعمل أمريكا على منع الصين من أن يكون لها نفوذ في هاتين المنطقتين.
ولذلك فإن وضع الصين ليس حسنا مهما بلغت قوتها الاقتصادية التي هي مربوطة بأمريكا وبالغرب أكثر مما تكون منفردة وصاحبة قرار في العالم الاقتصادي.
وإن كان لديها القوة العسكرية إلا أنها تفتقر للرسالة العالمية وتفتقر للفهم السياسي الذي يمكنها من تصبح دولة كبرى عالميا.
وإذا سقطت أمريكا عن مركز الدولة الأولى سوف تجد اليابان تنافسها في تلك المنطقة وسوف تجد روسيا تضيق عليها لتمنعها من أن تتفوق عليها وسوف تجد بريطانيا تعود إلى الهند وغيرها من مناطق نفوذها القديم لتقف في وجه الصين.
وأمريكا التي سقطت عن مركز الدولة الأولى فرضيا سوف تبقى دولة كبرى تعمل على منع الصين من أن تسيطر على تلك المنطقة الحيوية والمصيرية بالنسبة لها وذلك بدعم اليابان ضد الصين.
ومن هنا لا يوجد احتمال كبير بأن تقوم الصين وتملأ الفراغ في الموقف الدولي إذا ما سقطت أمريكا في الوقت الحالي.
وأما روسيا التي تحمل صفة الدولة الكبرى، فإن لديها إمكانيات عسكرية قادرة على أن تخيف الدول الأخرى فيها ولكن ليس لديها القدرة الاقتصادية والمالية على تمويل حملاتها العسكرية إذا ما أرادت التدخل العسكري في كل مكان، فعملتها الروبل عبارة عن عملة محلية فلم تستطع أن تجعلها عملة عالمية، ولم تسيطر على المؤسسات المالية العالمية.
والأهم أنه لم يعد لديها رسالة وأفكار تحملها للعالم.
فقد تخلت عن المبدأ الشيوعي وتبنت المبدأ الرأسمالي لتطبقه على نفسها لتسير شؤون الدولة وتعالج مشاكلها حسبه، ولكنها لا تحمله رسالة للعالم ولا تنادي لتطبيق أفكاره، فهذا لم تقدم عليه، لأن الشعب الروسي لم يتبن الرأسمالية كمبدأ للحياة ورسالة له وإن كان هو متأثرا به وراضيا بتطبيقه عليه، والأحزاب الروسية لم تتبن المبدأ الرأسمالي كرسالة، فلا يوجد أحزاب مبدئية أو على الأقل فكرية سياسية في روسيا، وإنما هي أحزاب أقرب ما تكون إلى الوصولية تقوم على تحقيق مصالح سياسية للفوز بالمقاعد والمناصب والمكاسب المادية.
وإن كان هناك الحزب الشيوعي الذي يتبنى الشيوعية ويعتبر ثاني حزب في روسيا، ولكنه فاقد للتجديد ولا يحمل رسالته الشيوعية وهو أقرب إلى أن يكون حزبا قوميا أو شيوعيا بالاسم على غرار الحزب الشيوعي الصيني، فهو لا يضع حلولا على أساس المبدأ الشيوعي، ويبدو أنه لا يعترض على النظام الرأسمالي المطبق في البلاد، ولا يقوم بالصراع الفكري مع المبدأ الرأسمالي ولا بالكفاح السياسي ضد النظام على أساس المبدأ الشيوعي.
فهو فاقد للحيوية وللقدرة على ذلك وإنما يتغنى بأمجاد الماضي.
والوسط السياسي الروسي وسط يسعى لتحقيق المكاسب المادية والفوز بالمناصب.
فلا ترى فيه سياسيين مبدعين وسياسيين مفكرين.
فمثلا حزب يطلق على نفسه القضية العادلة دعا رئيسه أندريه دوناييف العام الماضي حزبه إلى تغيير جذري فيه فقال في مؤتمر حزبه في موسكو: "يجب علينا أن نوضح رسالتنا ونغير أيديولوجيتنا أو حتى اسم الحزب. ونحن نتخلى عن كلمة الليبرالي ونتحول إلى حزب يميني بكل معاني الكلمة أو حتى إلى حزب قومي وطني".
وأعرب عن قناعته بأن "هذا الاتجاه هو الطريق الوحيد أمام الحزب من أجل البقاء بصفته تنظيما سياسيا".
وقال "إن البلاد تغيرت ويتعين على الحزب أن يتغير أيضا".
وقال "إن حزبه خسر المعركة من أجل أصوات الناخبين".
فهو يتغير حسب ميول الناس فلا يعمل على تغييرهم حسب ميوله.
وكان الملياردير الروسي ميخائيل برخوروف قد أسس هذا الحزب عام 2008 بعد تراجع شعبية حزب يابلوكو (التفاحة) الليبرالي القديم.
فقام ميخائيل برخوروف وتخلى عن منصبه كرئيس للحزب عام 2011 وبدأ بتنفيذ مشروع سياسي خاص به" (روسيا اليوم 2012/11/3) وقد أسس هذا الملياردير حزبا آخر في تموز 2012 أطلق عليه المنبر الحر وانتخب رئيسا له في 2012/10/27.
ومثلا فقد أعرب رئيس الوزراء الروسي دميتري ميدفيديف عن ثقته بأن تغيير نظام الأحزاب سيسمح لعشرات الأحزاب الروسية أن تصبح فاعلة وسيمنحها التأثير في التركيبة السياسية للبلاد.
(وكالة نوفوستي 2012/12/7) فهذه نماذج عن نوعية الأحزاب الروسية وعن عقلية السياسيين.
وحزب روسيا الموحدة وهو حزب بوتين لا يختلف عنها بشيء.
فالحزب الحاكم وهو حزب روسيا الموحدة برئاسة رئيس الدولة الروسية بوتين ويأتي في الدرجة الثانية الحزب الشيوعي ولكن بفارق كبير في المقاعد فالأول يحتل 282 والثاني يحتل حوالي 90 مقعدا.
فروسيا تتمنى أن تصبح دولة عظمى وبذلك تحافظ على صفتها كدولة كبرى.
فتعمل على تطوير قوتها العسكرية.
فقد أعلنت عام 2009 عن أنها غيرت عقيدتها العسكرية وأن هدفها أن تصبح دولة عظمى كما ذكر رئيسها السابق ورئيس وزرائها الحالي مدفيديف.
ولديها نفوذ في آسيا الوسطى وفي منطقة القوقاز وفي منطقة القرم وفي روسيا البيضاء.
وهي تعمل على تركيز نفوذها في هذه المناطق.
وحاليا لا تعمل على مزاحمة أمريكا وكل ما تعمل له هو أن تقبل أمريكا بمشاركتها إياها وأن تعطيها اعتبار الدولة الكبرى الشريكة أو الدولة الثانية.
وإذا سقطت أمريكا عن مركز الدولة الأولى فإن الاحتمال ليس كبيرا بأن تتبوأ هذا المركز وتملأ الفراغ، لأنه لا يوجد لديها رسالة عالمية وسوف تجد ألمانيا وفرنسا تقف في وجهها معززة بالاتحاد الأوروبي ما عدا بريطانيا التي سوف تعمل على إيجاد توازن دولي بين روسيا وفرنسا وألمانيا.
وأوروبا الشرقية لا ترغب بعودة روسيا إليها وقد انضمت أكثرها إلى الاتحاد الأوروبي.
وكذلك دول البلقان لا ترغب بعودة روسيا سوى صربيا التي فيها إمكانية العودة إلى روسيا لتتقوى بها وتعيد سيطرتها على مناطق يوغسلافيا التي فقدتها.
وبما أنه لم تستطع أية دولة أن تستغل الأزمات العالمية التي هزت موقف أمريكا الدولي من الأزمة المالية إلى الضربات الموجعة التي تعرضت لها في العراق وفي أفغانستان.
مما يدل على عجز كل الدول الكبرى فعليا والمرشحة لذلك بأن تصبح الدولة الأولى في العالم حسب ظروفها الحالية.
ونلاحظ أن أهم شيء هو وجود السياسيين المبدعين والشجعان واستغلال الفرص السانحة مثل الأزمات الكبرى التي تهز موقف الدولة الأولى عالميا ومن ثم استغلال الإمكانيات وزيادتها والعمل على إيجاد تأثير في الدول الأخرى والعمل على قيادتها.
فإذا وجدت الإمكانيات ولم يوجد السياسيون فلن يحصل تغيير.
وبناء على كل ذلك فإنه من المحتمل إذا سقطت أمريكا حاليا أن يحصل توازن متقارب نوعا ما بين هذه الدول الكبرى، ولا تستطيع أية دولة أن تملأ الفراغ بسرعة وسيبدأ التسابق بينها.
وكل دولة منها سيكون لها مناطق نفوذ لا تسمح لدولة أخرى أن تدخلها بسهولة كما يحصل حاليا حيث تدخل أمريكا مناطق النفوذ التابعة للدول الكبرى الأخرى. وكل واحدة ستبدأ بتقوية نفوذها في مناطقها.
وستعمل الصين على بسط نفوذها على منطقتها في بحر الصين الشرقي والجنوبي لأن أمريكا تكون قد سقطت عن مركز الدولة الأولى فلا تستطيع أن تبقى مسيطرة على هذه المناطق.
وعندئذ ستبرز اليابان لتقف في وجه الصين.
وتعود المنافسة بين بريطانيا وفرنسا في أفريقيا لتزاحم بعضها بعضا.
وتبرز ألمانيا بعدما تخلصت من الهيمنة الأمريكية وقيودها وتبدأ تنافس بريطانيا وفرنسا.
ومن ثم تبدأ روسيا بالتفكير بالعودة إلى أوروبا الشرقية والبلقان.
وسيحتدم الصراع بين هذه الدول التي تتعادل تقريبا إلى أن تتسبب بنشوب حروب في هذه المناطق ولا يستبعد أن يتطور الأمر إلى حروب بين الدول الكبرى.
وأمريكا إذا سقطت عن مركز الدولة الأولى سوف لا تنتهي نهائيا ولكنها ستبقى دولة كبرى تنافس الدول الأخرى إلا إذا عادت إلى عزلتها بعدما أصابها اليأس من جراء سقوطها عن مركز الدولة الأولى فتعود دولة إقليمية كبرى في الأمريكتين.
أما الأمة الإسلامية فإن مقومات الدولة الكبرى لا زالت كامنةً فيها، وقد بدأت إرهاصات عنفوانها تتحرك منذ أواخر القرن الماضي، وهي الآن يكاد يبزغ فجرها، وتعود من جديد دولةً كبرى بل الدولة الأولى بإذن الله.
وستكون فرصة الخلافة في تبوء مكانة الدولة الأولى في العالم سانحة أكثر بسبب التنافس الدولي المتعادل تقريبا، ويكون نموها وتطورها أسرع مما لو كانت أمريكا هي الدولة الأولى المهيمنة على العالم كما هو حاليا.
فسوف تستغل التنافس والصراع بين تلك الدول الكبرى حتى تتمكن من أن تصبح دولة كبرى بل الدولة الأولى في العالم، سيما وقد أصبح لديها حزب سياسي مبدع قادر على أن يقودها ليحقق لها ذلك بإذن الله.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أسعد منصور
لقراءة الجزء الثاني اضغط هنــــا |
لقراءة الجزء الثالث اضغط هنــــا |