الثورات تمهد للتغيير الصحيح
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الإنسان بطبيعته يكره الظلم والقهر والتسلط من قبل الآخرين ويسعى نحو الانعتاق من التسلط والارتقاء بأوضاعه نحو الأفضل، وهذه الحركة الإنسانية قد تكون غريزية تنطلق بحركة غريزية دون أي فكر مسبوق؛ كحاجة الإنسان للطعام أو الشراب أو غيرها من الحاجات، أو كحركته نحو الانعتاق من القيد والاستعباد، وقد تكون هذه الحركة مسبوقة بعملية فكرية؛ أي مسبوقة بتفكير بالواقع وحكم على هذا الواقع أنه بحاجة إلى تغيير، ثم الانطلاق بما توصل إليه فكره من أحكام للعمل نحو التغيير.
وهذه الحركة سواء أكانت غريزية، أم مسبوقة بفكر إما أن تكون بشكل فردي يقوم بها كلُّ فرد بما يراه مناسباً، أو تكون حركة منظمة لها قيادة وتوجيه معين حتى تصل إلى غايتها.
وتُسمّى هذه الحركة الجماهيرية أثناء سيرها نحو التغيير واصطدامها مع حراس الواقع السيء ماديا وفكرياً، وقيامها بأعمال عديدة من الإنكار على هذا الواقع كالمسيرات والهتافات أو الاعتصامات أو الاقتتال والمناوشات، التي تصاحب الاحتجاج، أو الأعمال العسكرية أو غير ذلك من أساليب، تسعى من خلالها الشعوب للقيام على هذا الواقع وإنكاره، وتسعى لتغييره، تسمى ثورة وانتفاضة، وهناك فرق بين العملية الانقلابية للواقع؛ عن طريق أصحاب القوة والمتنفذين في الدول، وبين الثورة والانتفاضة؛ لأن الأولى تكون عن طريق وصول الفكرة؛ أي فكرة التغيير سواء أكانت خاطئة أم صحيحة، وصولها إلى مراكز القوة والنفوذ - أو ما يسمون بأهل النصرة - المتحكمة بالأمور واقتناعها بها دون اصطدام معها، قبل أن يقوم هؤلاء - من أصحاب القوة - بعملية انقلاب على الواقع وتسليمه لأصحاب الفكر الجديد، دون اصطدام واسع بارز أو ظاهرٍ مع من يعارضهم ويقف في طريقهم، أما الثورات فإنها تواجه أصحاب القوة وحراس الواقع وتصطدم معهم بشكل واسع وظاهر، حتى تستطيع أن تتغلب عليهم وطردهم عن هذه المراكز، أو تستطيع تطويعهم نحو أهدافها بالإقناع؛ سواء أكانت هذه الأعمال الإنكارية منظمة لها قيادة، أم فوضوية دون قيادة... فهذه الأعمال كلها تسمى ثورة أو انتفاضة نحو تغيير الواقع السيء، أو غير ذلك من أسماء..
وقد قامت الشعوب في بلاد المسلمين - وخاصة بعد هدم الخلافة - بثورات عدة ضد الظلم والاستعباد والتسلط من قبل الحكام الظالمين، منها على سبيل المثال الثورات التي حصلت في إيران والجزائر ومصر وتركيا...، وغيرها من الدول في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي؛ ومنها هذه الثورات الحاصلة اليوم وما زالت مستمرة في بعض الدول العربية..
فهل يمكن أن تصل هذه الثورات الحالية بالشعوب الثائرة في بعض بلاد المسلمين إلى عملية تغيير انقلابية صحيحة، وكيف يمكن حمايتها من العبث والانحراف إذا ما انحرفت عن مسارها الصحيح؟!
وللإجابة عن هذين السؤالين أقول:-
إن أية عملية تغيير انقلابي صحيحة يجب أن تكون مسبوقة بفكر صحيح يسبق حركة الشعوب، أو يواكبها أثناء الثورة، وإذا لم يكن كذلك فإن هذه الثورات أو غيرها من أعمال لا تصل إلى تغيير صحيح، حتى وإن وصلت إلى عملية تغيير للواقع بواسطة الثورة، لأن الفكر الخاطئ يؤدي إلى تغيير خاطئ للواقع، وذلك حسب وجهة نظرنا النابعة من الإسلام، والحركة الفوضوية أو الغريزية أيضاً تؤدي إلى تغيير خاطئ حتى وإن حصل التغيير بشكل كامل، لأنها لم تسبق بفكر صحيح، ولا حتى بفكر خاطئ...
والحقيقة أن الشعوب التي تثور على الظلم في العالم الإسلامي أو في غيره، هي شعوب حيوية تحب الحركة والتغيير، وترفض الذل والاستعباد...
وهذا الأمر يساعد ويمهد لعملية تغيير صحيحة؛ لأن الشعوب الخاملة التي لا تتحرك ولا تندفع نحو الانعتاق يصعب إيجاد التغيير فيها، أي تكون عملية التغيير فيها أصعب من الشعوب الأخرى الحيوية...
ولقد قامت الشعوب في بعض بلاد المسلمين هذه الأيام بثورات عارمة شملت معظم قطاعات الناس، وتوسعت شيئاً فشيئاً حتى صارت تطالب بتغيير النظام تغييراً شاملاً، أي لم تقف عند حد الظلم الاقتصادي، أو ظلم تقييد الحريات، كما جرى في تونس ومصر واليمن وكما هو جارٍ هذه الأيام في سوريا...
لكن هذه الثورات لم تسلك حتى الآن الوجهة الصحيحة في عملية التغيير، ولم تصل الشعوب إلى الوضع الصحيح الذي تحصل فيه عملية تغيير صحيحة، والسبب هو أنها لم تقرن عملية الثورة ضد الظلم بالفكر الصحيح المبني على تصور صحيح لطريقة العمل وللأهداف المنشودة، رغم استمرارية هذه الحركة الجماهيرية وعدم انتهائها...
فالشعب في تونس أو في مصر أو في اليمن قَبِل بتغيير شكلي غير مبني على أحكام الإسلام الصحيحة، فقبل بالحريات والديمقراطية وبالأحزاب العلمانية، وظن أنه قد وصل إلى تغيير الوضع تغييراً صحيحاً، وإذا بالأمور ترجع إلى نقطة البداية ليجد نفسه قد دار في حلقة مفرغة، فتستمر الثورة وتعود المعاناة لهذه الشعوب...
أما الوجهة الصحيحة في عملية التغيير الصحيح؛ فهي قناعة الناس ووعيهم - في بلاد الثورات أو غيرها - بأن التغيير يجب أن يكون على أساس الإسلام، وسيرهم خلف قيادات مخلصة تتبنى هذه الوجهة، وليس خلف غيرها من قيادات عميلة أو علمانية، أو تخلط بين الأمرين...
فإذا وصل الناس في أغلبهم إلى هذه القناعة عن وعي وإدراك للتغيير الصحيح، وساروا خلف القيادة التي تسعى لذلك فإنهم يصلون إلى تغيير صحيح...
ولكن رغم أن هذه الثورات لم تسلك حتى الآن الطريق الصحيح لعملية التغيير إلا أنها تمهد لهذا الأمر سواء أكانت هذه الثورات فكرية كما هو في تونس ومصر أم عسكرية كما هو في سوريا...
أما كيف يمكن أن تمهد هذه الثورات للتغيير الصحيح، فالأمر الأول: هو أن الشعوب تريد تحقيق العدل بدل الظلم، وتريد رفع مستواها الاقتصادي، وتريد أن تتحرر من عبودية الحكام، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بالإسلام، وقد جربت الشعوب بالفعل في بعض البلاد التي حصلت فيها ثورات، ووضعت قوانين جديدة تستند إلى النظام الرأسمالي فبقي الأمر على ما هو عليه من الظلم والاستعباد، ولم يتحقق شيء من طموح هذه الشعوب، الأمر الثاني: هو أن الشعوب في بلاد المسلمين مسلمة وتحمل الفكر الإسلامي، وترغب في إيصال هذا الفكر إلى التطبيق، وهذا الأمر هو رأي عام عند أغلب الشعوب في العالم الإسلامي، لكنه غير نابع من وعي عام كامل، لذلك تضلَّل الشعوب في إيصالها للأهداف الخاطئة، وتُحرف عن الوضع الصحيح للتغيير... أما الأمر الثالث: فهو ارتباط السياسيين القائمين على التغيير في هذه الثورات بقوى استعمارية خارجية، وهذا الأمر لا يخفى على الشعوب نتيجة حركاتهم وارتباطاتهم وقبولهم لمشاريع الاستعمار، ولمؤسساته الدولية..
هذه الأمور الثلاثة لا يمكن التحايل عليها لأنها أمور عامة في المجتمعات الإسلامية لذلك تبقى الشعوب في حركة متجددة تريد وتسعى للتغيير الذي يوصل الإسلام الذي تحمله، ويرفع مستواها الاقتصادي ويبعد عنها الظلم، وفي الوقت نفسه تريد قيادات غير عميلة ولا مرتبطة بالاستعمار كالقيادات السابقة، لأنها اكتوت بنارها وبظلمها ولا تريد أن تكرر نفس المأساة القديمة.
هذه الأمور الثلاثة وهي استمرارية الظلم، واستبعاد الإسلام، وارتباط القيادات الجديدة بالاستعمار تجعل نار الثورة تخبو أحياناً ثم لا تلبث أن تعود مرة أخرى وتقفز إلى السطح..
ونصل إلى النقطة الأخيرة وهي ما هو واجب الواعين من أبناء الأمة تجاه هذه الثورات لجني عملية تغيير صحيحة؟!
إن الأصل في الواعين الساعين للتغيير أن يدعموا هذه الثورات مادياً ومعنوياً لاستمراريتها، واستمرارية حركة الأمة في رفضها للظلم، والعمل على عدم انطفاء شعلتها، لأن سكوت الأمة على الظلم، وعدم حركتها ليست ظاهرة صحيحة في الأمة الإسلامية، وخاصة أننا مأمورون بالتصدي للمنكر بكل وسيلة شرعية تغيّر هذا المنكر، وإن المناطق التي تسكت فيها الشعوب ولا تنتفض ولا تتمعّر وجوهها تجاه الظلم، ولا تستنكر المنكرات، فهذه مناطق صعبة العمل للتغيير، والمناطق التي تكثر فيها الأحداث وحركة الشعوب تكون أكثر أهلية منها للتغيير...
فالعمل الأول: يجب أن تنصب على استمرارية الإنكار والانتفاض - بشتى الوسائل ومنها الثورة - في وجه الحاكم وأعوانه..
العمل الثاني، يجب أن تنصب الجهود على تنقية الثورات من الأفكار المسمومة، وبيان زيفها للأمة مثل الديمقراطية والحرية وغير ذلك من أفكار غريبة عن وجهة نظرنا..
العمل الثالث: بيان واقع المجتمع وكيف تتم عملية التغيير الصحيحة في المجتمع، وأن المجتمع ليس هو شخص الحاكم وزمرته والجيش فقط، إنما هو أبعد من ذلك وأوسع، فيبين للناس أن المجتمع هو أفكار ومشاعر ونظام وعلاقات، وأن عملية التغيير الانقلابي يجب أن تنصب على هذه الأمور، حتى نصل بالمجتمع إلى الرأي العام النابع من الوعي العام نحو التغيير على أساس الإسلام، وأن أي عملية تغيير سوى ذلك تكون إما خاطئة تخالف فكر الأمة ودينها، وإما شكلية لا تسمن ولا تغني من جوع، وإما عملية مرتبطة بمخططات الكفار الغربيين وعملائهم من السياسيين في بلاد المسلمين..
أما العمل الرابع: فهو توجيه الثورات، والعمل على أخذ قيادتها من القيادات العميلة عن طريق كشفهم وكشف أفكارهم وأهدافهم، وهذه من أصعب الأمور لأن فيها اصطدامًا مع هذه القيادات ومن وراءها، وهذا الأمر يكون بالاتصال بمراكز الثقل المؤثرين في الثورات؛ سواء أكانت سلمية أم عسكرية، وبأخذ التأييد للقيادة المخلصة ولفكرها في حال قلع النظام العميل عن سدة الحكم، ويكون أيضا ببث الأفكار الإسلامية النقية، وبيان زيف الأفكار الأخرى والقائمين عليها..
العمل الخامس: الاتصال الدائم مع مراكز القوى الفاعلة في المجتمع، وكسر الطوق عنها وتفهيمها للواقع الموجود، واستغلالها من قبل الحكام ضد شعوبها لخدمة المخططات الاستعمارية، وتفهيمها أن الشعوب لا تريد إيذاءها ولا قتلها، بل تريد منها عدم حراسة الواقع السيئ، وتفهيمها أيضا أن الواجب عليها هو السير مع حركة الشعوب للتغيير الصحيح والانقلاب على حراس الاستعمار من الحكام..
وفي الختام أقول: بأن ما جرى في تونس ومصر واليمن لم يوصل أصحاب الثورة حتى الآن للتغيير الجذري لا الخاطئ ولا الصحيح، إنما هو تغيير شكلي؛ لأن الذي جرى هو عملية تلبيس أو ترقيع للنظام السابق ولم يتغير شيء من الأمور الجذرية كالعملاء السياسيين من الوسط السياسي، والأفكار السامة، والمؤسسات المبنية على تركيبة فكرية سقيمة، ولا المؤسسة العسكرية المرتبطة قياداتها بقوى استعمارية، وهذا الأمر يختلف عما يجري في سوريا لأن الثورة لم تصل إلى نهايتها، وأغلب السائرين فيها ينادون بخلع جذور النظام، وينادون بالفكر الإسلامي الصحيح، ويسمعون من الواعين نصائحهم في العمل لإعادة حكم الإسلام في حال سقوط النظام وخلع جذوره، لكن هذا لا يعني أن الأمور قد نضجت بشكل كامل، وأنه لا توجد مخاطر في هذا الأمر، فهناك بعض الفرق العسكرية لها ارتباطات مع الدول العميلة؛ من حيث الدعم المالي والتوجيه السياسي، وهناك عند البعض الآخر ضيق في الوعي الصحيح على أحكام الدولة الإسلامية، وهناك تنظيمات تحاول الدول الكافرة زرعها في هذه الثورة...
لكن يمكن القول بأن الصفة الغالبة حتى الآن على هذه الثورة هي الإخلاص والرأي العام نحو الإسلام وأن القلة هي من تحاول حرف مسارها..
وفي كلا الشكلين من هذه الثورات؛ - أي ما جرى في تونس ومصر واليمن، أو ما يجري في سوريا - يمكن القول: بأن حركة الشعوب لم تخمد ولن تخمد حتى لو تم تضليل هذه الثورات أو حرفها، فالشعوب - كما ذكرنا - لم تعد تنطلي عليها مثل هذه الأضاليل وسرعان ما تكشفها.. لأن الرأي العام في كل العالم الإسلامي هو لصالح الإسلام، وينقصه الوعي العام بشكل متفاوت في البلاد الإسلامية، وأن الظلم المستشري في بلاد المسلمين لا يمكن إزالته عن طريق هذه التغييرات الشكلية الخادعة، وأن بقاء العملاء السياسيين ضمن هذه التغييرات الشكلية الخادعة كذلك أمر لا تسكت عليه الأمة..
من هنا أقول: بأن هذه الثورات سوف تستمر مرحلة بعد مرحلة، حتى تستقر أخيراً في عملية تغيير انقلابي صحيح قائم على أساس الإسلام وينهض بأمة الإسلام نهضة صحيحة، لتعود هذه الأمة صاحبة رسالة عظيمة كما أراد لها ربها عز وجل ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾
فنسأله تعالى أن يعجل بالفرج لهذه الأمة عما قريب.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
حمد طبيب - بيت المقدس