- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
العلمانيّة تمكر بأبنائنا وخلاصهم بأيدينا
لا يخفى على أحد ما وصل إليه حال شبابنا اليوم من ضياع وخواء فكري، وفراغ روحي، جراء موجة صناعة التفاهة التي أغرقتهم في سفاسف الأمور، وبلّدت لديهم الإحساس، وأفسدت عندهم الذوق العام؛ حيث انتشرت مختلف أنواع المخدرات داخل المعاهد، وتفشت ظاهرة العنف والكلام البذيء، وعدم احترام المربين والأساتذة. هذا دون الحديث عن الاختلاط والتبرج والسفور والانحلال الأخلاقي وانعدام الحياء بصفة عامة، حتى غدت بعض مدارسنا ومعاهدنا مكانا للعب الورق والقمار والرقص؛ فصارت أقرب إلى الملاهي الليلية منها إلى المؤسسات التربوية!
ولكن قد يخفى على الناس حقيقة النظام العلماني من كونه السبب الأساسي والفعلي في ضرب مفهوم التربية، والأسس المنهجية التي تقوم عليها العملية التربوية، بل لقد تضافرت جهود أذرع هذا النظام من إعلام وتعليم ونظم تشريعية وسلطة قضائية وأجهزة تنفيذية، لتتقصد بشكل مباشر ومقصود إضعاف صورة المربي، وفك ارتباط الناشئة بسلطة الأبوة والأمومة، فيشرف هذا النظام الفاسد تحت غطاء الحداثة وحفظ حقوق الطفل وصيانة الحريات الشخصية، على صياغة قواعد العملية التربوية وإفراغها من مضمونها، وفق ما تطلبه الدوائر الغربية شبرا بشبر وذراعا بذراع، وهو ما يجعل هوية الأمة وقيمها الإسلامية الثابتة على مرمى حجر أكبر الهيئات الغربية، على غرار اليونسكو واليونيسف وغيرهما، تعينها في ذلك أبواق النظام وأجهزته تحت عنوان الإصلاح! ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾.
فالجميع في بلادنا يدرك مدى تدني مستوى الإعلام الذي يكاد ينحصر دوره في إفساد الذوق العام وإغراق الناس في التفاهة، تعاضده في ذلك جهود العديد من صفحات ومواقع التواصل الإلكتروني التي أنشئت أساسا لهذا الغرض الخبيث. فنشر الفاحشة والرذيلة وكل المحرمات والمنكرات في المسلسلات الرمضانية، صار عرفا عاما مفروضا على الكبار والصغار دون استثناء، بل لا يكاد يوجد برنامج تلفزيوني أو إنتاج إعلامي أو حتى إشهار إلا وفيه رسالة ضمنية تكاد تنتزع القيم الإسلامية انتزاعا، وتضرب بالرابط الأسري عرض الحائط، خاصة لدى فئة الشباب التي يخصها الإعلام ببرامج الميوعة، ويريد منها أن تتطبّع بالحرام وتستمرئ العيش به دون رقيب منذ الصغر؛ فلا سلطة بعدها لأب ولا لأم على أبنائهما ولا لمربّ على تلاميذه ولا لراع على رعيّته، بل تضعف سلطة هؤلاء جميعا أمام السهام القاتلة التي يوجهها الإعلام صوب الأبناء، وتضعف مكانتهم الاعتبارية وسلطتهم المعنوية، ويغيب مفهوم القدوة والأسوة، وتغذى في المقابل تلك النزعة الفردية الأنانية القاتلة، وحب الانتصار للذات ونزواتها على حساب العقيدة والدين والقيم النبيلة، وهو الخطر الذي يتهدد الناشئة جيلا بعد جيل، ويصنع شبابا ضائعا تائها حائرا، يبحث عن نفسه في قدوات وهمية وشخصيات مضطربة من صنع الإعلام وأجنداته الشيطانية الخبيثة. فهل يُنتظر من إعلام تجرأ على الله ورسوله ﷺ مرّات ومرّات أن يكون مؤتمنا على تربية الناشئة وتوجيهها؟
وأما التعليم في ظل هذا النظام الفاشل، فلم يعد يمنع إهانة المربي ماديا ومعنويا، بل إن قوانينه الجائرة وبرامجه العقيمة وظلمه للمربي في ظل تغييب البنية التحتية وضعف الأجور، فضلا عن فساد المنظومة البيداغوجية، هي عوامل متضافرة وأرضية مشجعة على التملص من المسؤولية وبتر العملية التربوية، وإضعاف كل أسسها ومقوماتها، وإلا فهل كان الاعتداء على المربين بالسب والشتم وحتى الضرب ليصبح أمرا مألوفا بعد أن كان في الأجيال السابقة أمرا مستحيلا؟ وهل الحكومة في تونس قادرة على وضع حدّ لهذه المأساة والتنسيق بين جميع الأطراف المتداخلة في هذا الملف والغرب يمسك برقبتها أكثر من أي وقت مضى؟ ثم من أعطى للجهات الخارجية أحقية التدخل في صياغة برنامج إصلاح المنظومة التربوية في تونس على غرار ما تفعله منظمة اليونسكو في بلادنا هذه الأيام؟
إن تقنين الشذوذ الجنسي، وتقنين المخدرات، وفرض مفهوم "الجندرة" (النوع الاجتماعي) بدعوى حق الشاب في اختيار جنسه، هي أفكار شاذة ودخيلة ما كانت لتجد لنفسها موطئا في بلاد الإسلام لولا العملاء والوكلاء الذين يسوقون لهذه الأفكار الهدامة من خلال وسائل الإعلام، وأدوات التواصل الإلكتروني، ويحاولون فرض تطبيقها بالقانون، وهي جزء من أجندة عالمية تستهدف الإسلام وتتخفى وراء حقوق الإنسان والطفل والمرأة.
إن وزارة العدل، ووزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن، ووزارة الشباب والرياضة، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، هي كلها وزارات خاضعة لاتفاقيات مباشرة مع منظمة الأمم المتحدة وأذرعها، على غرار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي واليونسكو واليونيسف وصندوق الأمم المتحدة للسكان، ويكفي الدخول للمواقع الرسمية للوزارات المذكورة للاطلاع على تفاصيل هذه الاتفاقيات؛ ولذلك لا ينتظر أن تخرج سياسات هذه الوزارات عن الخطوط العريضة التي ترسمها أذرع هذه المنظمة الأممية التي أنشئت أساسا لمحاربة الإسلام والمسلمين، وضرب كيانهم المعنوي واستهداف هويتهم وحضارتهم وعقيدتهم ودينهم. فهل يرجى من الشوك العنب؟!
ثم في ظل تفاهة الإعلام وفساد التعليم واستهداف الروابط الأسرية، تجد الطفولة نفسها ضحية لفساد نظام تُغيّب فيه العملية التربوية السليمة بشكل ممنهج ومقصود، بحيث يُترك القابض على دينه في ظل هذا الفساد المنظم ليواجه جهود المجتمع في إفساد أبنائه.
إن ما يجب الوعي عليه هو أن الحكومات المتعاقبة في تونس، عجزت تماما عن وضع حل لهذه المعضلة المتعلقة بالتربية، وستبقى عاجزة عن ذلك ما دامت تحت سقف هذا النظام الجمهوري العلماني، والسبب في ذلك بسيط للغاية، وهو أن السياسات المستوردة ليست خيارا ذاتيا نابعا من عقيدة أهل البلد وأحكام دينهم، بل هي قوانين مسقطة وأحكام مستوردة، تأتينا أحيانا ضمن شروط إقراض لهذه الحكومات! وإنه لمن المخزي والمذل أن تعجز دولة تدّعي الاستقلال عن رعاية أبنائها وتربيتهم وفق ما تقتضيه أحكام دينهم، وعليه فإن من ينتظر أن يأتي الإصلاح التربوي لأبناء المسلمين من أرباب الفساد الرأسمالي العالمي، هو كمن ينتظر العسل من ذكر النحل!
فالرأسمالية هي رأس كل بلية في عالم اليوم، والعولمة في حقيقتها ليست سوى عولمة لهذا الفساد الرأسمالي العابر للقارات، فهل نجحت هذه الأنظمة الغربية في تربية أبنائها حتى تُتخذ قدوة للمسلمين وتستورد الحكومات العميلة سياساتها؟!
إن الغرب يشكو من أزمة حضارية وقيمية وخلقية منقطعة النظير، تصدقها لغة الأرقام ونسب الانتحار وتزايد معدلات العنف والاغتصاب وزنا المحارم، فضلا عن تضاعف نسق الشذوذ الجنسي الذي أصبح ظاهرة اجتماعية مسنودة بصرامة الجندي وقوة القانون.
فالتربية عند الغرب تقوم على تنمية الاستعدادات الجسدية والجنسية والخلقية لدى الطفل، وفق مفهوم الحرية الشخصية النابع عن عقيدة فصل الدين عن الحياة، وهذا مصدر شقاء الإنسان وفساد سلوكه، فهم لا يضعون حدودا لتنمية هذه القدرات، إنما يعتبرون أن السلوك الإيجابي هو السلوك الحر، وأن تقييد السلوك وضبطه مخالف لمبادئ الحريّة الشخصية، فيهلكون الحرث والنسل من حيث أرادوا بزعمهم إصلاحا، وهذا هو أساس الفساد في الحضارة الرأسمالية.
قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾.
إن التربية عملية ضرورية للإنسان في حياته الخاصة والعامة، فهي سلسلة وشبكة متكاملة من القيم والأفعال والسلوكيات الإيجابية، التي يُحدثها الكبار في الصغار بهدف تيسير وتسهيل إدماجهم في المجتمع، ومساعدتهم على تغيير أوضاعهم وتحسين أفعالهم قصد التمكن من مهارات الحياة، وهي الطريقة التي تمكنهم من التكيف مع محيطهم ومن تحقيق الانسجام والتناغم مع بيئتهم، والأهم تعويدهم على تحقيق الرقابة الذاتية ومحاسبة النفس باستحضار معيّة الله في صغير الأمر وكبيره، وهي بذلك عملية شاقة تتطلب العناية والرعاية الدائمة وتتضافر فيها جهود جميع الأوساط التربوية المشاركة في صقل الشخصية الإسلامية ونحتها لتكون شخصية قيادية مبدعة ترنو إلى الكمال، وهذا ما أراده الإسلام من كل فرد من أفراد الأمة.
إلا أن خضوع العالم اليوم للنظام الرأسمالي النابع عن عقيدة فصل الدين عن الحياة، وتأثر الأوساط التربوية في بلادنا بالثقافة الغربية، أوجد اضطرابا في المفاهيم والموازين، فأبعد العقيدة الإسلامية بوصفها أساساً للأفكار والأحكام الشرعية بوصفها مقياساً للأعمال، لتحل محلها المقاييس والمفاهيم والقناعات الغربية، التي تحدد السلوكيات الإيجابية وتضبطها، فتؤثر بشكل مباشر على العملية التربوية وبالتالي على كيفية بناء الشخصية، بما يبعد الناشئة عن الجادة وعن الفطرة السليمة ويجعلهم عرضة للإشباعات الخاطئة التي قد تصل بهم إلى درجة الشذوذ، وهو ما يفسد الذوق العام ويؤثر على المجتمع ككل وعلى نظرته لمفهوم السعادة، التي تعني عند المسلم نوال رضا الله عز وجل.
وإنه لا سبيل للعودة إلى الجادة، ووضع لبنات برنامج تربوي قويم وشامل يعالج المسألة من جذورها، ويحقق مفهوم الاستقامة، إلا بجعل الإسلام أساسا لتقويم السلوك وتهذيب النفس، وتسخير كل الطاقات وكل المجالات لإتمام العملية التربوية، من أجل صناعة جيل من الشباب شبيه بجيل الصحابة، ورجال في الأمة ذوي همم عالية لو أرادوا خلع الجبال لخلعوها، وهذا هو المعنى الأساسي للتربية في الإسلام، حيث تنمو قدرات الإنسان وتتطور قواه النفسية والعقلية والجسدية والخلقية بما يطلبه الشرع الذي هو أساس كل فكر قويم وسلوك سليم.
وضوح هذه المفاهيم، هو ما دفع ورقة بن نوفل ليقول عند سماعه النبي ﷺ وتحقّقه من تباشير النبوَّة: "هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعاً، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيّاً إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ..."، أي "يا ليتني، كنت شابّاً يا محمد كي أتمكَّن من نصرتك". أمنية لم تتحقق لذلك العجوز يومها، ولكنها متاحة اليوم لملايين الشباب في أمة محمد ﷺ. فهلّا سارعنا إلى الاستجابة لله رسوله؟
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
القسم النسائي لحزب التحرير في ولاية تونس