- الموافق
- كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح 191) مجلس الأمة (الشورى والمحاسبة)
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ"وَمَعَ الحَلْقَةِ الوَاحِدَةِ وَالتِّسْعِينَ بَعدَ المِائَةِ, وَعُنوَانُهَا:"مَجلِسُ الأُمَّةِ- الشُّورَى وَالمُحَاسَبَةُ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتَينِ: السَّابِعَةَ عَشْرَةَ, وَالثَّامِنَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ المِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 108: الشُّورَى وَالمَشُورَةُ هِيَ أَخْذُ الرَّأْيِ مُطْلَقاً، وَهِيَ غَيرُ مُلْزِمَةٍ فِي التَّشْرِيعِ، وَالتَّعْرِيفِ، وَالأُمُورِ الفِكْرِيَّةِ كَكَشْفِ الحَقَائِقِ، وَفِي الأُمُورِ الفَنِّيَّةِ وَالعِلْمِيَّةِ، وَتَكُونُ مُلْزِمَةً عِندَ استِشَارَةِ الخَلِيفَةِ فِي كُلِّ مَا هُوَ مِنَ الأُمُورِ العَمَلِيَّةِ، وَالأَعْمَالِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى بَحْثِ وَإِنْعَامِ نَظَرٍ.
المادة 109:الشُّورَى حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فَحَسْبُ. وَلَا حَقَّ لِغَيرِ المُسْلِمِينَ فِي الشُّورَى، وَأَمَّا إِبْدَاءُ الرَّأْيِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الرَّعِيَّةِ مُسْلِمِينَ وَغَيرِ مُسْلِمِينَ.
المادة 110: المَسَائِلُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الشُّورَى مُلْزِمَةً عِندَ استِشَارَةِ الخَلِيفَةِ يُؤْخَذُ فِيهَا بِرَأْيِ الأَكْثَرِيَّةِ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ كَونِهِ صَوَاباً أَوْ خَطَأً. أَمَّا مَا عَدَاهَا مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الشُّورَى غَيرِ المُلْزِمَةِ فَيُتَحَرَّى فِيهَا عَنِ الصَّوَابِ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الأَكْثَرِيَّةِ أَوِ الأَقَلِّيَّةِ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ, يَا أُمَّةَ القُرآنْ, يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ, يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ, يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبّاً, وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيّاً وَرَسُولاً, وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجاً وَدُستُوراً, وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَاماً لِلْحَياَة,ِ أَيُّهَا المُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ, فَوقَ كُلِّ أَرضٍ, وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ, يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ, أَيُّهَا المُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ. أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ, وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا, وَهَذِهِ هِيَ المَوادُّ: الثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ وَالعَاشِرَةُ بَعْدَ المِائَةِ. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ المَوَادِّ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
أولا: المادة 108: الشُّورَى مَصْدَرُ شَاوَرَ. وَهِيَ طَلَبُ الرَّأْيِ مِنَ المُسْتَشَارِ، وَيُقَالُ: اسْتَشَارَهُ طَلَبَ مِنهُ المَشُورَةَ. وَالشُّورَى وَالمَشُورَةُ بِضَمِّ الشِّينِ بِمَعْنىً وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ المَشْـوَرَةُ بِتَسْكِينِ الشِّينِ. جَاءَ فِي لِسَانِ العَرَبِ: يُقَالُ فُلَانٌ جَيِّدُ المَشُورَةِ، والمَشْـوَرَةِ لُغَتَانِ. قَالَ الفَرَّاءُ: المشُورَةُ أَصْلُهَا مَشْورَةٌ، ثُمَّ نُقِلَتْ إِلَى مَشُورَةٌ لِخِفَّتِهَا. وَقَالَ اللَّيثُ: المَشْورَةُ مَفْعَلَةٌ اشْتُقَّ مِنَ الإِشَارَةِ، وَيُقَالُ: مَشُورَةٌ وَهِيَ الشُّورَى والمَشُورَةُ بِضَمِّ الشِّينِ وَكَذَلِكَ المَشْـورَة، وَتَقُولُ: مِنهُ شَاوَرْتُهُ فِي الأَمْرِ واستَشَرتُهُ بمعنى وَاحِدٍ، وَجَاءَ فِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ: المَـشْورَةُ: الشُّورَى، وَكَذَا المَشُورَة بِضَمِّ الشِّينِ، نَقُولُ مِنهُ شَاوَرَهُ فِي الأَمْرِ وَاستَشَارَهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَالأَصْلُ فِي مَشرُوعِيَّةِ الشُّورَى هُوَ أَمْرُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبِيَّهُ الكَرِيمَ r أَنْ يَسْتَشِيرَ المُؤْمِنِينَ حَيثُ قَالَ لَهُ: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ). (آل عمران 159)، وَهَذَا أَمْرٌ يُفِيدُ الطَّلَبَ، وَالقَرَائِنُ المُصَاحِبَةُ لِهَذَا الأَمْرِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي النُّصُوصِ تُفِيدُ أَنَّ هَذَا الطَّلَبَ هُوَ لِلنَّدْبِ. وَهَذِهِ النُّصُوصُ هِيَ:
1- مَدْحُ اللهِ سُبْحَانَهُ لِلشُورَى بِمَدْحِهِ لِلمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ أَمْرَهُمْ شُورَى بَينَهُمْ بِقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ). (الشورى 38).
2- كَثْرَةُ استِشَارَةِ رَسُولِ اللهِ r لِصَحَابَتِهِ فِي الأُمُورِ كَثْرَةً تَدُلُّ عَلَى مَدَى حِرْصِهِ عَلَيهَا وَالاهتِمَامِ بِهَا وَبِفَضْلِهَا وَليُعَلِّمَ المُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِهِ الحِرْصَ عَلَى القِيَامِ بِهَا، فَقَدْ رَوَى التِّرمِذِيُّ عَنِ أَبِي هُرَيرَةَ قَولَهُ: «مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَكْثَرَ مَشُورَةً لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ r».
3- مَجِيءُ أَمْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ لِرَسُولِهِ r بِمُشَاوَرَةِ المُؤْمِنِينَ فِي مَعْرِضِ أَمْرِهِ إِيَّاهُ بِاللِّينِ لَهُمْ وَالعَفْوِ عَنْهُمْ وَالاستِغْفَارِ لَهُمْ بِقَولِهِ تَعَالَى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ). (آل عمران 159).
وَهَكَذَا فَإِنَّ الأَصْلَ فِي حُكْمِ الشُّورَى هُوَ النَّدْبُ. وَلَكِنْ عِندَ قِيَامِ الخَلِيفَةِ بِاستِشَارَةِ مَجْلِسِ الأُمَّةِ فَإِنَّ عَلَيهِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِرَأْيِ الأَكْثَرِيَّةِ فِي الأُمُورِ العَمَلِيَّةِ, وَفِي الأَعْمَالِ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَحْثٍ وَإِنْعَامِ نَظَرٍ، وَذَلِكَ كَالأُمُورِ الدَّاخِلِيَّةِ فِي الدَّولَةِ، كَالحُكْمِ وَالتَّعْلِيمِ وَالصِّحَّةِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَلِكَ الحَالُ عِندَ مُحَاسَبَتِهِ عَلَى أَعْمَالٍ قَامَ بِهَا بِالفِعْلِ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ وَالأَعْمَالِ، وَذَلِكَ أَخْذاً مِنْ نُزُولِ رَسُولِ اللهِ r عَلَى رَأْيِ الأَكْثَرِيَّةِ فِي الخُرُوجِ مِنَ المَدِينَةِ لِمُلَاقَاةِ جَيشِ المُشْرِكِينَ فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ، مَعَ أَنَّ رَأْيَهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَرَأْيُ كِبَارِ الصَّحَابَةِ البَقَاءُ فِي المَدِينَةِ وَعَدَمُ الخُرُوجِ مِنهَا، وَأَخْذاً مِنْ قَولِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا». (رِوِاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ الأَشْعَرِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ).
أَمَّا إِنْ قَامَ الخَلِيفَةُ بِاستِشَارَةِ المَجْلِسِ فِيمَا عَدَا هَذَا كَأَنِ استَشَارَهُ فِي الأُمُورِ الفَنِّيَّةِ وَالأُمُورِ الفِكْرِيَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى بَحْثٍ وَإِنْعَامِ نَظَرٍ، أَوْ فِي أُمُورِ الحَرْبِ وَالرَّأْيِ وَالمَكِيدَةِ، فَإِنَّ رَأْيَ الأَكْثَرِيَّةِ فِيهِ غَيرُ مُلْزِمٍ لَهُ، وَيَبْقَى هُوَ صَاحِبُ القَرَارِ فِيهِ، وَذَلِكَ أَخْذاً مِنْ قَبُولِ الرَّسُولِ r لِرَأْيِ الحُبَابِ بْنِ المُنْذِرِ فِي تَحْدِيدِ مَوقِعِ مَعْرَكَةِ بَدْرٍ, وَعَدَمِ الالتِفَاتِ إِلَى آرَاءِ الصَّحَابَةِ، بَلْ عَدَمِ استِشَارَتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَأَخْذاً مِنْ رَفْضِ أَبِي بَكْرٍ t لِرَأْيِ جَمْهَرَةِ الصَّحَابَةِ بِعَدَمِ مُحَارَبَةِ المُرْتَدِّينَ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ فِي بِدَايَةِ تَسَلُّمِهِ الخِلَافَةَ، وَكَذَلِكَ الحَالُ فِي قِيَامِ المَجْلِسِ بِمُحَاسَبَةِ الخَلِيفَةِ عَلَى مَا تَمَّ إِنْجَازُهُ بِالفِعْلِ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ، فَإِنَّ رَأْيَ الأَكْثَرِيَّةِ فِيهِ غَيرُ مُلْزِمٍ. وَكَذَلِكَ فَإِنَّ التَّشْرِيعَ لَا يُؤْخَذُ رَأْيُ النَّاسِ فِيهِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ مِنَ اللهِ وَلَيسَ مِـنَ النَّاسِ، وَالشُّورَى فِيمَا شَرَعَهُ اللهُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي المُبَاحِ، لِأَنَّ غَيرَ المُبَاحِ لَا اختِيَارَ فِيهِ، بَلْ مُلْزَمٌ بِالأَخْذِ بِهِ كَمَا وَرَدَ: مِنْ وَاجِبٍ، أَوْ مَندُوبٍ، أَوْ مَكُرُوهٍ، أَوْ حَرَامٍ. فَالأَعْمَالُ الَّتِي تَحْصُلُ فِيهَا الشُّورَى لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الأَعْمَالِ المُبَاحَةِ.
ثانيا: المادة 109: إِنَّ كَونَ الشُّورَى حَقّاً لِلمُسلِمِينَ دَلِيلُهَا الآيَتَانِ: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ). (آل عمران 159)، (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ). (الشورى 38). بِالنِّسبَةِ لِلمُسلِمِينَ. وَقَولُهُ تَعَالَى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). (النحل 43) بِالنِّسْـبَةِ لِغَيرِ المُسلِمِينَ. فَاللهُ تَعَالَى أَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْـلِ الكِتَابِ عَمَّا لَا نَعْلَمُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُؤْخَذَ رَأْيُهُمْ، وَإِذَا جَازَ أَخْذُ رَأْيِهِمْ جَازَ أَنْ يَكُونُوا أَعْضَاءَ فِي مَجْلِسِ الشُّورَى.
ثالثا: المادة 110: وَدَلِيلُهَا فِعْلُ الرَّسُولِ r فَإِنَّ الرَّسُولَ r فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ نَزَلَ عِندَ رَأْيِ الأَكْثَرِيَّةِ، وَفِي مَعْرَكَةِ بَدْرٍ نَزَلَ عِندَ رَأْيِ الحُبَابِ بْنِ الـمُنْذِرِ، وَتَرَكَ مَا كَانَ قَدْ رَآهُ, وَلَمْ يَرْجِعْ لِيَأُخُذَ رَأْيَ الأَكْثَرِيَّةِ، وَفِي غَزْوَةِ الحُدَيبِيَةِ تَمَسَّكَ بِرَأْيِهِ وَحْدَهُ مُنْفَرِداً، وَضَرَبَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَرْضَ الحَائِطِ، بَلْ ضَرَبَ بِرَأْيِ جَمِيعِ المُسلِمِينَ، وَأَلْزَمَهُمْ جَبْراً النُّزُولَ عِنْدَ رَأْيِهِ رَغْمَ سَخَطِهِمْ. فَهَذِهِ الأَعْمَالُ الثَّلَاثَةُ إِذَا قُرِنَتْ بِقَولِهِ r لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: «لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَبِقَولِهِ تَعَالَى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ). (آل عمران 159)، (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ). (الشورى 38)، فَإِنَّهَا تُفَسِّرُ مَعْنَى الآيَتَينِ وَالحَدِيثِ، وَتُبَيِّنُ أَيَّ الأَعْمَالِ الَّتِي إِذَا استَشَارَ الخَلِيفَةُ فِيهَا يَكُونُ مُلْزَمًا بِنَتِيجَةِ الاستِشَارَةِ أَيْ بِرَأْيِ الأَكْثَرِيَّةِ، وَأَيَّ الأَعْمَالِ الَّتِي إِذَا استَشَارَ الخَلِيفَةُ فِيهَا لَا يَكُونُ مُلْزَماً بِرَأْيِ الأَكْثَرِيَّةِ، فَمَا كَانَ مِنْ مِثْلِ حَادِثِ الحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ أَنَّ الحُكْمَ الشَّرعِيَّ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَأَنَّ مِنْ صَلَاحِيَّةِ الخَلِيفَةِ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَإِنَّ الشُّورَى فِيهِ غَيرُ مُلْزِمَةٍ. وَمَا كَانَ مِنْ مِثْلِ حَادِثِ بَدْرٍ مِمَّا يَحْتَاجُ فِيهِ الأَمْرُ إِلَى إِعْمَالِ نَظَرٍ وَفْكْرٍ، أَوْ كَانَ لِإِعْطَاءِ رَأْيٍ فِي أَمْرٍ فَنِّيٍّ، فَإِنَّهُ يُتَحَرَّى فِيهِ الصَّوَابُ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ كَونِهِ رَأْيَ الأَكْثَرِيَّةِ أَوْ رَأْيَ وَاحِدٍ. وَمَا كَانَ مِنْ مِثْلِ حَادِثِ أُحُدَ، وَهُوَ الرَّأْيُ فِي الأَعْمَالِ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِرَأْيِ الأَكْثَرِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَ قَولِهِ r لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: «لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا». (رَوَاهُ أَحْمَدُ).
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.