- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح141) الحَلْقَةُ الحَادِيَةُ وَالأَربَعونَ بَعدَ المِائَةِ
طَرِيقَةُ نَصْبِ الخَلِيفَةِ هِيَ البَيعَةُ
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ الحَادِيَةِ وَالأَربَعِينَ بَعدَ المِائَةِ, وَعُنوَانُهَا: "طَرِيقَةُ نَصْبِ الخَلِيفَةِ هِيَ البَيعَةُ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتَينِ الثَّامِنَةِ وَالتِّسعِينَ وَالتَّاسِعَةِ وَالتِّسْعِينَ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادةُ الرابعةُ والثلاثونَ 34- طَرِيقَةُ نَصْبِ الخَلِيفَةِ هِيَ البَيعَةُ. أَمَّا الإِجرَاءَاتُ العَمَلِيَّةُ لِتَنصِيبِ الخَلِيفَةِ وَبَيعَتِهِ فَهِيَ:
أ - تُعْلِنُ مَحكَمَةُ الـمَظَالِـمِ شُغُورَ مَنصِبِ الخِلَافَةِ.
ب- يَتَوَلَّى الأَمِيرُ الـمُؤَقَّتُ مَهَامَّهُ, وَيُعلِنُ فَتْحَ بَابِ التَّرشِيحِ فَوراً.
ج- يَتِمُّ قَبُولُ طَلَبَاتِ الـمُرَشَّحِينَ الـمُستَوفِينَ لِشُرُوطِ الانعِقَادِ، وَتُستَبْعَدُ الطَّلَبَاتُ الأُخرَى، بِقَرَارٍ مِنْ مَحكَمَةِ الـمَظَالِـمِ.
د- الـمُرَشَّحُونَ الَّذِينَ تَقْبَلُ مَحكَمَةُ الـمَظَالِـمِ طَلَبَاِتِهِمْ، يَقُومُ الأَعضَاءُ الـمُسلِمُونَ فِي مَجْلِسِ الأُمَّةِ بِحَصْرِهِمْ مَرَّتَينِ: فِي الأُولَى يَختَارُونَ مِنهُمْ سِتَّةً بِأَغْلَبِيَّةِ الأَصوَاتِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَختَارُونَ مِنَ السِّتَّةِ اثنَينِ بِأَغْلَبِيَّةِ الأَصْوَاتِ.
هـ- يُعْلَنُ اسْمَا الاثنَينِ، وَيُطلَبُ مِنَ الـمُسلِمِينَ انتِخَابُ وَاحِدٍ مِنهُمَا.
و- تُعلَنُ نَتِيجَةُ الانتِخَابِ, وَيَعرِفُ الـمُسلِمُونَ مَنْ نَالَ أَكْثَرَ أَصوَاتِ الـمُنتَخِبِينَ.
ز- يُبَـادِرُ الـمُسلِمُونَ بِمُبايَـعَـِة مَنْ نَالَ أَكثَرَ الأَصوَاتِ خَلِيفَةً لِلمُسلِمِينَ عَلَى العَمَلِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ r.
ح- بَعْدَ تَمَامِ البَيعَةِ يُعلَنُ مَنْ أَصْبَحَ خَلِيفَةً لِلمُسلِمِينَ لِلمَلأِ حَتَّى يَبلُغَ خَبَرُ نَصْبِهِ الأُمَّةَ كَافَّةً، مَعَ ذِكْرِ اسمِهِ, وَكَونِهِ يَحُوزُ الصِّفَاتِ الَّتِي تَجعَلُهُ أَهْلاً لانعِقَادِ الخِلَافَةِ لَهُ.
ط- بَعدَ الفَرَاغِ مِنْ إِجرَاءَاتِ تَنصِيبِ الخَلِيفَةِ الجَدِيدِ تَنتَهِي وِلَايَةُ الأَمِيرِ الـمُؤَقَّتِ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: أَيُّهَا الصَّائِمُونْ, يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ, يَا أُمَّةَ القُرآنْ, يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ, يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ, يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبّاً, وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيّاً وَرَسُولًا, وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجاً وَدُستُوراً, وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَاماً لِلْحَياَة,ِ أَيُّهَا الـمُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ, فَوقَ كُلِّ أَرضٍ, وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ, يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ, أَيُّهَا الـمُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ. أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ, وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا, وَهَذِهِ هِيَ الـمَادَّةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ الـمَادَّةِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
حِينَ أَوجَبَ الشَّرعُ عَلَى الأُمَّةِ نَصْبَ خَلِيفَةٍ عَلَيهَا، حَدَّدَ لَهَا الطَّرِيقَةَ الَّتِي يَجرِي بِهَا نَصْبُ الخَلِيفَةِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ ثَابِتَةٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَتِلْكَ الطَّرِيقَةُ هِيَ البَيعَةُ. فَيَجرِي نَصْبُ الخَلِيفَةِ بِبَيعَةِ الـمُسلِمِينَ لَهُ عَلَى العَمَلِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَالـمَقصُودُ بِالـمُسلِمِينَ هُمُ الرَّعَايَا الـمُسلِمُونَ لِلخَلِيفَةِ السَّابِقِ إِنْ كَانَتِ الخِلَافَةُ قَائِمَةً، أَو مُسلِمُو أَهْلِ القُطْرِ الَّذِي تُقَامُ الخِـلَافَةُ فِيهِ إِنْ لَمْ تَكُنِ الخِـلَافَةُ قَائِمَةً.
أَمَّا كَونُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ هِيَ البَيعَةَ؛ فَهِيَ ثَابِتَةٌ مِنْ بَيعَةِ الـمُسلِمِينَ لِلرَّسُولِ r، وَمِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ r لَنَا بِبَيعَةِ الإِمَامِ. أَمَّا بَيعَةُ الـمُسلِمِينَ لِلرَّسُولِ r، فَإِنَّهَا لَيسَتْ بَيعَةً عَلَى النُّبُوَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ بَيعَةٌ عَلَى الحُكْمِ، إِذْ هِيَ بَيعَةٌ عَلَى العَمَلِ، وَلَيسَتْ بَيعَةً عَلَى التَّصدِيقِ. فَـبُـويِعَ r عَلَى اعتِبَارِهِ حَاكِماً، لَا عَلَى اعتِبَارِهِ نَبِيّاً وَرَسُولاً؛ لِأَنَّ الإِقرَارَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِيمَانٌ وَلَيسَ بَيعَةً، فَلَمْ تَبقَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ البَيعَةُ لَهُ بِاعتِبَارِهِ رَئِيسَ الدَّولَةِ.
وَقَد وَرَدَتِ البَيعَةُ فِي القُرآنِ وَالحَدِيثِ. قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّـهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ). (الممتحنة 12) وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّـهَ يَدُ اللَّـهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ). (الفتح 10) وَرَوَى البُخَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ يَحيَى بْنِ سَعِـيدٍ قَالَ: أَخبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الوَلِيدِ، أَخبَرَنِي أَبِي عَنْ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ r عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ». وَفِي مُسلِم عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عَمرِو بْنِ العَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «... وَمَنْ بَايَعَ إِمَاماً فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ». وَفِي مُسلِمٍ أَيضاً عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْـتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا». وَرَوَى مُسلِمٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيرَةَ خَمْسَ سِنِينَ، فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ». فَالنُّصُوصُ صَرِيحَةٌ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنَّ طَرِيقَةَ نَصْبِ الخَلِيفَةِ هِيَ البَيعَةُ. وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ، وَسَارُوا عَلَيهِ، وَبَيعَةُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَاضِحَةٌ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا الإِجرَاءَاتُ العَمَلِيَّةُ، الَّتِي تَتِمُّ بِهَا عَمَلِيَّةُ تَنصِيبِ الخَلِيفَةِ، قَبْلَ أَنْ يُبايَعَ، فَإِنَّهَا تُفْهَمُ مِمَّا حَصَلَ مَعَ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، الَّذِينَ جَاءُوا عَقِبَ وَفَاةِ الرَّسُولِ r مُبَاشَرَةً، وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثمَانُ، وَعَلِيٌّ، رِضوَانُ اللهِ عَلَيهِمْ، وَقَدْ سَكَتَ عَنهَا جَمِيعُ الصَّحَابَةِ، وَأَقَرُّوهَا، مَعَ أَنَّهَا مِمَّا يُنكَرُ لَو كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلشَّرعِ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِأَهَمِّ شَيءٍ يَتَوَقَّفُ عَلَيهِ كَيَانُ الـمُسلِمِينَ، وَبَقَاءِ الحُكْمِ بِالإِسلَامِ. وَمِنْ تَتَبُّعِ مَا حَصَلَ فِي نَصْبِ هَؤُلَاءِ الخُلَفَاءِ، نَجِدُ أَنَّ بَعضَ الـمُسلِمِينَ قَدْ تَنَاقَشُوا فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَكَانَ الـمُرشَّحُونَ سَعْداً، وَأَبَا عُبَيدَةَ، وَعُمَرَ، وَأَبَا بَكْرٍ، إِلَّا أَنَّ عُمَرَ وَأَبَا عُبَيدَةَ لَم يَرْضَيَا أَنْ يَكُونَا مُنَافِسَينِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَكَأَنَّ الأَمْرَ كَانَ بَينَ أَبِي بَكْرٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ لَيسَ غَيرَ، وَبِنَتِيجَةِ الـمُنَاقَشَةِ بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ. ثُمَّ فِي اليَومِ الثَّانِي دُعِيَ الـمُسلِمُونَ إِلَى الـمَسْجِدِ فَبَايَعُوهُ، فَكَانَتْ بَيعَةُ السَّقِيفَةِ بَيعَةَ انعِقَادٍ، صَارَ بِهَا خَلِيفَةً لِلمُسلِمِينَ، وَكَانَتْ بَيعَةُ الـمَسجِدِ فِي اليَومِ الثَّانِي بَيعَةَ طَاعَةٍ.
وَحِينَ أَحَسَّ أَبُو بَكْرٍ بِأَنَّ مَرَضَهُ مَرَضُ مَوتٍ، وَبِخَاصَّةٍ وَأَنَّ جُيُوشَ الـمُسلِمِينَ كَانَتْ فِي قِتَالٍ مَعَ الدُّوَلِ الكُبرَى آنَذَاكَ الفُرْسِ وَالرُّومِ، دَعَا الـمُسلِمِينَ يَستَشِيرُهُمْ فِيمَنْ يَكُونُ خَلِيفَةً لِلمُسلِمِينَ، وَمَكَثَ مُدَّةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فِي هَذِهِ الاستِشَارَاتِ. وَلَـمَّا أَتـَمَّهَا وَعَرَفَ رَأْيَ أَكْثَرِ الـمُسلِمِينَ، عَهِدَ لَـهُمْ، أَيْ (رَشَّحَ) بِلُغَةِ اليَومِ، لِيَكُونَ عُمَرُ الخَلِيفَةَ بَعدَهُ، وَلَـمْ يَكُنْ هَذَا العَهْدُ أَوِ التَّرشِيحُ عَقداً لِعُمَرَ بِالخِلَافَةِ مِنْ بَعدِهِ؛ لِأَنَّ الـمُسلِمِينَ بَعدَ وَفَاةِ أَبِي بَكْرٍ t حَضَرُوا إِلَى الـمَسْجِدِ، وَبَايَعُوا عُمَرَ بِالخِـلَافَةِ، فَصَارَ بِهَذِهِ البَيعَةِ خَلِيفَةً لِلمُسلِمِينَ، وَلَيسَ بِالاستِشَارَاتِ، وَلَا بِعْهَدِ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ تَرشِيحَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ لَو كَانَ عَقْداً لِلخِلَافَةِ لِعُمَرَ لَمَا احتَاجَ إِلَى بَيعَةِ الـمُسلِمِينَ، هَذَا فَضْلاً عَنِ النُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا سَابِقاً الَّتِي تَدُلُّ صَرَاحَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يُصبِحُ أَحَدٌ خَلِيفَةً إِلَّا بِالبَيعَةِ مِنَ الـمُسلِمِينَ.
وَحين طُعِنَ عُمَرُ، طَلَبَ مِنهُ الـمُسلِمُونَ أَنْ يَستَخْلِفَ فَأَبَى، فَأَلَحُّوا عَلَيهِ فَجَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ، أَيْ (رَشَّحَ) لَـهُمْ سِتَّةً، ثُمَّ عَيَّنَ صُهَيباً لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَلِيَقُومَ عَلَى مَنْ رَشَّحَهُمْ عُمَرُ حَتَّى يَختَارُوا مِنْ بَينِهِمُ الخَلِيفَةَ خِلَالَ الأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا لَهُمْ، وَقَدْ قَالَ لِصُهَيْبٍ: «... فَإِنِ اجتَمَعَ خَمْسَةٌ، وَرَضُوا رَجُلاً، وَأَبَى وَاحِدٌ، فَاشْدَخْ رَأْسَهُ أَوِ اضْرِبْ رَأْسَهُ بِالسَّيفِ ...» كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابنُ قُتَيبَةَ صَاحِبُ كِتَابِ: "الإِمَامَةُ وَالسِّيَاسَةُ" الـمَعرُوفُ بـ"تَارِيخُ الخُلَفَاءِ"، وَابنُ سَعْدٍ فِي "الطَّبَقَاتِ الكُبرَى"، ثُمَّ عَيَّنَ أَبَا طَلْحَةَ الأَنصَارِيَّ مَعَ خَمسِينَ رَجُلاً لِحِرَاسَتِهِمْ، وَكَلَّفَ الـمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ أَنْ يَختَارَ لِلمُرَشَّحِينَ مَكَانَ اجتِمَاعِهِمْ، ثُمَّ بَعدَ وَفَاتِهِ t، وَبَعدَ أَنِ استَقَرَّ الـمَجلِسُ بِالـمُرَشَّحِينَ، قَالَ عَبدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوفٍ: أَيُّكُمْ يُخْرِجُ مِنهَا نَفْسَهُ وَيَتَقَلَّدُهَا عَلَى أَنْ يُوَلِّيَهَا أَفضَلَكُمْ فَسَكَتَ الجَمِيعُ، فَقَالَ عَبدُ الرَّحْمَنِ: أَنَا أَخْلَعُ نَفْسِي, ثُمَّ أَخَذَ يَستَشِيرُهُمْ وَاحِداً وَاحِداً يَسأَلُهُمْ أَنَّهُ لَوْ صُرِفَ النَّظَرُ عَنهُ مَنْ كَانَ يَرَى فِيهِمْ أَحَقَّ بِهَا، فَكَانَ جَوَابُهُمْ مَحْصُوراً فِي اثنَينِ: عَلِيٍّ وَعُثمَانَ. بَعدَ ذَلِكَ رَجَعَ عَبدُ الرَّحْمَنِ لِرَأْيِ الـمُسلِمِينَ يَسأَلُهُمْ: أَيُّ الاثنَينِ يُرِيدُونَ: يَسأَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، يَستَطْلِعُ رَأْيَ النَّاسِ، وَلَـمْ يَكُنْ t يَعْمَلُ فِي النَّهَارِ فَحَسْبُ, بَل فِي اللَّيلِ كَذَلِكَ. أَخْرَجَ البُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ الـمِـسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: «طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنْ اللَّيْلِ، فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ، فَقَالَ أَرَاكَ نَائِماً، فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ». فَلَمَّا صَلَّى النَّاسُ الصُّبْحَ تَمَّتْ بَيعَةُ عُثْمَانَ. فَصَارَ خَلِيفَةً بِبَيعَةِ الـمُسلِمِينَ، لَا بِجَعْلِهَا عُمَرُ فِي سِتَّةٍ. ثُمَّ قُتِلَ عُثمَانُ، فَبَايَعَ جَمْهَرَةُ الـمُسلِمِينَ فِي الـمَدِينَةِ وَالكُوفَةِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَصَارَ خَلِيفَةً بِبَيعَةِ الـمُسلِمِينَ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.