- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
الْخِلافَةُ
" فَرْضِيَّتُها وَضَرُورَتُها "
حَدَثانِ هامّانِ عَظِيمانِ فِيْ تارِيخِ الإِنْسانِيَّةِ، كانَ لَهُما أَثَرٌ بالِغٌ فِيْ تَغْيِيرِ مُجْرَياتِ الأَحْداثِ الْيَوْمِيَّةِ، وَفِيْ التَّأْثِيرِ فِيْ نَمَطِ الْحَياةِ الْبَشَرِيَّةِ، كَما لَهُما أَثَرٌ أَشَدُّ فِيْ تَوْجِيهِ التَّفْكِيرِ، وَتَنْظِيمِ السُّلُوكِ.
هذانِ الْحَدَثانِ الْبارِزانِ، هُما:
1- ظُهُورُ دَوْلَةِ الإِسْلامِ بِهِجْرَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَىْ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ قِيامِ الْخِلافَةِ الرّاشِدَةِ مِنْ بَعْدِهِ.
2- هَدْمُ دَوْلَةِ الْخِلافَةِ وَمَحْوُها مِنَ الْوُجُودِ.
وَبِالرُّغْمِ مِنْ أَنَّ تَأْثِيرَ هَذَيْنِ الْحَدَثَيْنِ كانَ مُتَغايِراً، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِ اسْتَقَرَّ بِوُجُودِ دَوْلَةِ الْخِلافَةِ، وَعَمَّ الْعَدْلُ وَالرَّخاءُ وَالاطْمِئْنانُ بِانْتِشارِ الإِسْلامِ ثُمَّ رُفِعَ هذا الْحَقُّ، وَاسْتَقَرَّ الْباطِلُ وَعَمَّ الْفَسادُ وَانْتَشَرَ الظُّلْمُ بِغِيابِ هذِهِ الدَّوْلَةِ بَعْدَ أَنْ أُلْغِيَتْ وَهُدِمَتْ.
أَمّا الْحَدَثُ الأَوَّلُ: فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُناكَ أَبْرَزُ مِنْ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولاً مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيُبَلِّغَ دِينَ الإِسْلامِ وَلِيُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَىْ النُّورِ. وَقَدْ تَرَكَّزَتْ هذِهِ الدَّعْوَةُ وَأَخَذَتْ طابِعَ الاسْتِقْرارِ وَالتَّحَدِّيْ بِهِجْرَتِهِ إِلَىْ الْمَدِينَةِ، كَما بَرَزَ بِاسْتِقْرارِهِ فِيْ الْمَدِينَةِ طابِعُ الدَّوْلِيَّةِ وَالْعالَمِيَّةِ: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) فَالإِسْلامُ رِسالَةُ اللهِ لِلنّاسِ جَمِيعاً فِيْ كُلِّ أَصْقاعِ الأَرْضِ وَإِلَىْ أَنْ يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها.
فَالإِسْلامُ إِذَنْ يَسْتَوْعِبُ مَشاكِلَ الإِنْسانِيَّةِ جَمِيعَها، مَهْما كَبُرَتْ هذِهِ الْمَشاكِلُ، وَمَهْما كانَ حَجْمُ تِلْكَ الْقَضايا، فَالإِسْلامُ أَكْبَرُ مِنْها، فَهُوَ أَفْكارٌ لِدِراسَةِ كُلِّ الْوَقائِعِ وَفَهْمِها، وَهُوَ أَحْكامٌ لِمُعالَجَةِ جَمِيعِ الْقَضايا وَحَلِّها، وَهُوَ مَبْدَأٌ جاءَ لِيُعالِجَ الْجانِبَ الرُّوحِيَّ وَالْجانِبَ الْمادِّيَّ فِيْ هذا الإِنْسانِ. كَما يُعالِجُ الْجانِبَ الدُّنْيَوِيَّ وَالْجانِبَ الأُخْرَوِيَّ دُونَ فَصْلٍ بَيْنَهُما بَلْ رَبَطَهُما بِبَعْضٍ، رَبْطاً مُحْكَماً.
انْتَقَلَ رَسُولُ اللهِ إِلَىْ الرَّفِيقِ الأَعْلَىْ، وَجاءَتِ الْخِلافَةُ الرّاشِدَةُ مِنْ بَعْدِهِ، فَكانَتْ نُوراً وَهُدىً لِلنّاسِ، وَاتَّسَعَتْ رُقْعَةُ الدَّوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ، وَتَحَطَّمَتْ دَوْلَتاْ الْفُرْسِ وَالرُّومِ، وَامْتَدَّتْ أَجْنِحَةُ الإِسْلامِ فِيْ الْخافِقَيْنِ، وَشَرَّقَ أَصْحابُ رَسُولِ اللهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التّابِعِينَ وَغَرَّبُواْ، فاتِحِينَ يَنْشُرُونَ الإِسْلامَ، وَيَرْفَعُونَ لِواءَهُ خافِقاً، حَتَّىْ اسْتَظَلَّ مُعْظَمُ بِقاعِ الأَرْضِ بِرايَةِ الإِسْلامِ، وَنَعُمَ مُعْظَمُ النّاسِ بِنِعْمَةِ الإِسْلامِ ، وَعَمَّ الأَمْنُ وَالاسْتِقْرارُ، وَأَخَذَ هذا الإِنْسانُ حَقَّهُ مِنَ الْكَرامَةِ وَالْعِزَّةِ، فَحُفِظَتِ الْحُقُوقُ وَعَرَفَ الإِنْسانُ إِنْسانِيَّتَهُ.
فَقَبْلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْناً اسْتَقَرَّتْ حُقُوقُ الإِنْسانِ, وَعُرِفَتْ حُقُوقُ الْمَرْأَةِ وَطُبِّقَ ذلِكَ عَمَليّاً فِيْ حَياةِ الْبَشَرِ, وَلَمْ يَكُنْ حِبْراً عَلَىْ وَرَقٍ كَما هُوَ الْحالُ الآنَ فَكانَتْ هِجْرَةُ رَسُولِ اللهِ إِلَىْ الْمَدِينَةِ ثُمَّ ظُهُورُ الْخِلافَةِ الرّاشِدَةِ هِيَ الْحَدَثَ الأَوَّلَ وَالأَعْظَمَ فِيْ حَياةِ بَنِيْ الإِنْسانِ.
انْقِلابٌ جَذْرِيٌّ فِيْ الْفَهْمِ وَالتَّفْكِيرِ، وَتَحَوُّلٌ أَساسِيٌّ فِيْ الْعَيْشِ وَالسُّلُوكِ وَتَنْظِيمٌ جَدِيدٌ وَشامِلٌ فِيْ الْعَلاقاتِ وَنَظْرَةٌ صَحِيحَةٌ لِحُقُوقِ الإِنْسانِ وَحُقُوقِ الْمَرْأَةِ، وَاسْتَمَرَّ الأَمْرُ عَلَىْ هذا الْحالِ اثْنَيْ عَشَرَ قَرْناً وَنَيِّفاً, وَلكِنْ لا يَخْلُو مِنَ الإِساءَةِ فِيْ التَّطْبِيقِ فِيْ بَعْضِ الْفَتَراتِ.
أَمّا الْحَدَثُ الثّانِيْ: فِيْ حَياةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالأَكْثَرُ أَهَمِّيَّةً وَبُرُوزاً وَتَحَوُّلاً فِيْ الْعَيْشِ وَالتَّفْكِيرِ, فَهُوَ هَدْمُ الْخِلافَةِ وَتَقْوِيضُ بُنْيانِها وَتَقْطِيعُ أَوْصالِها وَتَمْزِيقُ أَشْلائِها وَمَحْوُها مِنَ الْوُجُودِ.
فِيْ الْعامِ الأَوَّلِ لِلْهِجْرَةِ اسْتَقَرَّ الرَّسُولُ فِيْ الْمَدِينَةِ، وَفِيْ الْعامِ الْحادِيَ عَشَرَ لِلْهِجْرَةِ بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ بِالْخِلافَةِ، وَفِيْ عامِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ مِئَةٍ وَاثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ لِلْهِجْرَةِ الثّالِثِ مِنْ آذارَ سَنَةَ أَلْفٍ وَتِسْعِ مِئَةٍ وَأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ لِلْمِيلادِ أَلْغَىْ اللَّعِينُ مُصْطَفَىْ كَمالْ الْخلافَةَ، وَأَعْلَنَها عَلْمانِيَّةً وَأَلْغَىْ كُلَّ شَيْءٍ يَمُتُّ إِلَىْ الإِسْلامِ بِصِلَةٍ، وَوافَقَ عَلَىْ تَسْلِيمِ وِلاياتِ الدَّوْلَةِ لِبِرِيطانْيا وَفَرَنْسا وَقُسِّمَتْ بَيْنَهُمْ بِمُوْجِبِ اتِّفاقِيَّةِ (سايْكْسْ - بِيكُو) وَأَخَذَتْ بِرِيطانْيا تَعْمَلُ عَلَىْ تَنْفِيذِ وَعْدِ بِلْفُورْ لإِقامَةِ دَوْلَةٍ لِلْيَهُودِ فِيْ فِلَسْطِينَ, وَقامَتِ الدَّوْلَةُ الْبَلْشَفِيَّةُ فِيْ رُوسْيا, وَعَمَّتْ أَنْظِمَةُ الْكُفْرِ كافَّةَ أَنْحاءِ الْمَعْمُورَةِ, وَأَخَذَ النِّزاعُ وَالصِّراعُ يَشْتَدُّ بَيْنَ مَبْدَأَيْنِ مادِّيَّيْنِ: الرَّأْسِمالِيَّةِ وَالشُّيُوعِيَّةِ، وَانْعَصَرَ الْعالَمُ وَانْضَغَطَ بَيْنَ فَكَّيْ هَذَيْنِ الْمَبْدَأَيْنِ, وَطَحَنَتْ رَحاهُما الأَسْوَدَ وَالأَحْمَرَ وَالأَصْفَرَ مِنَ النّاسِ.
غابَ الإِسْلامُ عَنِ الْحَياةِ فَغابَتِ الْفَضائِلُ, وَأُبْعِدَ الإِسْلامُ عَنِ الْحُكْمِ فَنَضَبَ الْخَيْرُ وَعَمَّ الظُّلْمُ وَاسْتَشْرَىْ الْفَسادُ, وَهُدِمَتِ الْخِلافَةُ فَانْهَدَمَ جِسْمُ الأُمَّةِ وَتَمَزَّقَتْ مِزَقاً صَغِيرَةً نُصِّبَ عَلَىْ كُلِّ مِزْقَةٍ مِنْها رَجُلٌ مَسْخٌ يُسَمَّىْ حاكِماً.
فَها نَحْنُ نُقاسِيْ الْمَصائِبَ وَها هُوَ الْعالَمُ يُعانِيْ الْوَيْلاتِ وَاشْتَدَّتْ وَطْأَةُ الظُّلْمِ وَعاثَ الْمُجْرِمُونَ فِيْ الأَرْضِ فَساداً, وَالضَّعِيفُ يَسْتَغِيثُ وَلا مُغِيثَ وَالْفَقِيرُ يَسْتَجِيرُ وَلا مُجِيرَ.
فَلا يَجُوزُ السُّكُوتُ وَالْقُعُودُ وَقَدْ طالَ الانْتِظارُ (ثَلاثَةُ أَيّامٍ لا يَجُوزُ تَخَطِّيْها دُونَ بَيْعَةِ خَلِيفَةٍ) هذِهِ هِيَ الْمُهْلَةُ الَّتِيْ أُعْطِيَتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَنَحْنُ بَعْدَ الثَّمانِينَ مِنَ السِّنِينِ نَعِيشُ بِلا خَلِيفَةٍ وَبِلا خِلافَةٍ, خَمْسَةٌ وَثَمانُونَ عاماً وَالْمُسْلِمُونَ يَعِيشُونَ فِيْ دائِرَةِ غَضَبِ اللهِ, وَأَعْناقُهُمْ خالِيَةٌ مِنْ بَيْعَةِ إِمامٍ.
لَقَدْ تَضافَرَتِ الأَدِلَّةُ وَتَواتَرَتِ النُّصُوصُ الَّتِيْ تُوْجِبُ عَوْدَةَ الْخِلافَةِ ، وَتَفْرِضُ أَوْلَوِيَّةَ الْعَمَلِ لإِعادَتِها غَضَّةً طَرِيَّةً وَخِلافَةً راشِدَةً عَلَىْ مِنْهاجِ النُّبُوَّةِ.
فَعَوْدَةُ الْخِلافَةِ وَعَوْدَةُ الْحُكْمِ بِما أَنْزَلَ اللهُ لَيْسَتْ حُقُوقاً قَدِيمَةً مُوْغِلَةً فِيْ التّارِيخِ، وَإِنَّما الْعَهْدُ بِها قَرِيبٌ وَقَرِيبٌ جِدّاً، وَغِيابُها عَنِ السّاحَةِ السِّياسِيَّةِ لَيْسَ إِلاّ كَغِيابِ رَجُلٍ مِنْ أَجْيالِنا نَحْنُ غابَ عَنْ أَهْلِهِ وَهُوَ فِيْ طَرِيقِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهِمْ .
وَإِنَّهُ وَإِنْ كانَ الاسْتِعْمارُ قَدْ أَبْعَدَها عَنِ الْمَيْدانِ فَتْرَةً، وَحاوَلَ طَمْسَ مَعالِمِها، وَانْتَزَعَ مِنْ مَناهِجِ الثَّقافَةِ وَالتَّعْلِيمِ كُلَّ الْمُؤَشِّراتِ إِلَيْها، فَإِنَّ الشَّوْقَ فِيْ الْقُلُوبِ وَالْحَنِينَ فِيْ النُّفُوسِ؛ وَهَلْ يَنْسَىْ أُمَّهُ وَلا يَبِرُّها إِلاّ عاقٌّ لِوالِدَيْهِ، مُنْكِرٌ لِذَوِيْ الْفَضْلِ عَلَيْهِ، فَعَهْدُنا بِها قَرِيبٌ سَنَةَ أَلْفٍ وَتِسْعِ مِئَةٍ وَأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ لِلْمِيلادِ. فَاللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَىْ يُقْسِمُ وَيُؤَكِّدُ الْقَسَمَ بِقَوْلِهِ: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىْ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ...) وَيَزِيدُ هذا التَّأْكِيدُ إِيضاحاً بِضَرُورَةِ عَدَمِ الْحَرَجِ فِيْ الإِقْبالِ عَلَىْ الاحْتِكامِ بِشَرْعِهِ، وَحَتْمِيَّةِ التَّسْلِيمِ وَالرِّضا تَسْلِيماً مُطْلَقاً بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ لا يَجِدُواْ فِيْ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) وَيَقُولُ جَلَّ شَأْنُهُ (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) وَفِيْ هذا النَّصِّ أَيْضاً تَأْكِيدٌ عَلَىْ عَدَمِ التَّفْرِيطِ وَلَوْ بِحُكْمٍ واحِدٍ مِنْ أَحْكامِ شَرْعِهِ الْقَوِيمِ (عَنْ بَعْضٍ) وَهُناكَ مَا هُوَ أَكْثَرُ تَأْكِيداً عَلَىْ الْحُكْمِ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ (إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للهِ...) وَفِيْ هذا النَّفْيِ مَعَ الاسْتِثْناءِ حَصْرُ الْحُكْمِ بِما أَنْزَلَ اللهُ، وَهَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ بِغَيْرِ سُلْطانٍ تُعْطِيهِ الأُمَّةُ لِخَلِيفَةٍ تُبايِعُهُ عَلَىْ الْحُكْمِ وَالتَّنْفِيذِ لِهذا التَّشْرِيعِ وَتَطْبِيقِ أَحْكامِهِ لِتَتِمَّ الرِّعايَةُ وَتَنْتَشِرَ الْهِدايَةُ وَيُضْمَنَ الأَمانُ وَيَسْتَقِرَّ الاطْمِئْنانُ وَتُرْفَعَ رايَةُ الْجِهادِ وَتَتَحَرَّكَ الْجُيُوشُ وَتَتِمَّ السِّيادَةُ وَتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا ؟ وَعِنْدَئِذٍ تَجِبُ الطّاعَةُ.
وَما عَمَلُ الرَّسُولِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ مَكَّةَ، وَسَيْرُهُ فِيْ الدَّعْوَةِ وَالتَّبْلِيغِ إِلاّ مَرْحَلَةً مِنَ الطَّرِيقِ لِلْوُصُولِ إِلَىْ الْحُكْمِ، فَقَدْ قالَ لِعَمِّهِ أَبِيْ طالِبٍ حِينَما طَلَبَتْ مِنْهُ قُرَيْشٌ أَنْ يَكُفَّ ابْنَ أَخِيهِ عَنْهُمْ، قالَ مَقُولَتَهُ الشَّهِيرَةَ : {وَاللهِ يا عَمُّ لَوْ وَضَعُواْ الشَّمْسَ فِيْ يَمِينِيْ وَالْقَمَرَ فِيْ يَسارِيْ عَلَىْ أَنْ أَتْرُكَ هذا الدِّينَ ما تَرَكْتُهُ حَتَّىْ يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلَكَ دُونَهُ} وَكانَ يَقُولُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللهَ يَحْمِينِيْ حَتَّىْ يَظْهَرَ هذا الدِّينُ } وَلِذلِكَ فَإِنَّما أَرْسَلَهُ اللهُ لِيَظْهَرَ هذا الدِّينُ مَهْما كَثُرَتِ الْمُقاوَمَةُ وَاشْتَدَّ الأَذَىْ {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَىْ اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} {هُوَ الَّذِيْ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىْ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَىْ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } ثُمَّ يُقْسِمُ الرَّسُولُ قائِلاً : {وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الدِّينَ حَتَّىْ تَسِيرَ الظَّعِينَةُ مِنْ بُصْرَىْ إِلَىْ صَنْعاءَ لا تَخافُ إِلاّ اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَىْ غَنَمِها} قالَ عَدِيُّ بْنُ حاتِمٍ الطّائِيٌّ: سَمِعْتُ هذا مِنَ الرَّسُولِ وَقَدْ شاهَدْتُ وُقُوعَهُ.
وَإِتْمامُ هذا الدِّينِ وَظُهُورُهُ يَكُونُ بِانْتِشارِهِ فِيْ مَشارِقِ الأَرْضِ وَمَغارِبِها, وَأَنْ تَكُونَ لَهُ السِّيادَةُ وَالْعُلُوُّ وَالْغَلَبَةُ {لِيُظْهِرَهُ عَلَىْ الدِّينِ كُلِّهِ} وَقالَ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {زُوِيَتْ لِيَ الأَرْضُ وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِيْ ما زُوِيَ لِيْ مِنْها, وَسَيَبْلُغُ هذا الدِّينُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ} وَإِلَىْ جانِبِ هذِهِ الأَدِلَّةِ وَالنُّصُوصِ, فَإِنَّ تَسارُعَ الأَحْداثِ وَتَفاقُمَ الْمَشاكِلِ وَتَراكُمَ الْقَضايا وَكِبَرَ حَجْمِها كُلُّها تُؤَكِّدُ عَلَىْ ضَرُورَةِ وُجُودِ الْخِلافَةِ, وَكُلُّها تَنْتَظِرُ الْحُلُولَ النّاجِحَةَ السَّرِيعَةَ, سِيَّما وَقَدْ أَعْلَنَتِ الأَنْظِمَةُ الْقائِمَةُ إِفْلاسَها, بَعْدَ أَنْ تَأَكَّدَ لِلْجَمِيعِ أَنَّ الأَمْراضَ الَّتِيْ تَسْرِيْ فِيْ الْمُجْتَمَعِ لا يُعالِجُها إِلاّ الإِسْلامُ, وَأَنَّ الْفَسادَ الْمُسْتَشْرِيَ فِيْ الأُمَّةِ لا يَسْتَأْصِلُهُ مِنْ جُذُورِهِ إِلاّ وُجُودُ الْخِلافَةِ, فَالْخِلافَةُ هِيَ الْحَلُّ.
فَالسّاحَةُ الْعالَمِيَّةُ كانَتْ مَيْداناً لِلْفُتُوحاتِ، فَلا سِباقَ تَسَلُّحٍ وَلا صَراعَ دَوْلِيّاً وَلا تَوازُنَ دَوْلِيّاً وَلا مُجْتَمَعَ دَوْلِيّاً وَلا قَراراتٍ دَوْلِيَّةً وَلا اسْتِعْمارَ وَلا إِشْعالَ حَرائِقَ هُنا وَهُناكَ فَالْمُسْلِمُونَ فِيْ السّاحَةِ فَقَطْ لَهُمُ الصَّدارَةُ، وَالْقَرارُ السِّياسِيُّ يَصْدُرُ عَنِ الْخَلِيفَةِ فَقَطْ، وَالسَّمْعُ وَالطّاعَةُ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، يُشِيرُ بِكَ فَتَتَحَرَّكَ الْجُيُوشُ يُنْجِدُ الصّارِخَةَ إِذا صَرَخَتْ، وَيَرْفَعُ الظُّلْمَ عَنِ الْمَظْلُومِ وَيُغِيثُ الْمَلْهُوفَ، دَوْلَةُ الْخِلافَةِ ظِلالُها وارِفَةٌ وَأَرْجاؤُها شاسِعَةٌ وَالرَّعِيَّةُ كُلُّهُمْ فِيْ أَمانٍ. أَمّا الْمَشاكِلُ الْمَحَلِّيَّةُ وَمَشاكِلُ الْمُسْلِمِينَ عُمُوماً فَإِنَّ حَلَّها يَبْدَأُ تِلْقائِيّاً بِمُجَرَّدِ إِعْلانِ الْخِلافَةِ وَتَرَكُّزِها.
فتحي سليم- أبو غازي