بسم الله الرحمن الرحيم
فواجع قوارب الهجرة بين تآمر أجهزة السلطة وفسادها
نعمتان ذَكَّرَ الله سبحانه وتعالى بهما أهل مكة بعد ما كان من إعراضهم عن دعوة الإسلام ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾؛ الغذاء والأمن، وقال رسول الله ﷺ فيما أخرجه الترمذي عن عبيد الله بن محصن رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّما حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا».
في أواخر 2019م بدأت في لبنان حالة الانهيار التدريجي الذي فقد معه الناس أو كادوا لقمة عيشهم، وصارت مداخيل الناس كومةً من الأوراق بالكاد تطعمهم، بحيث أصبح دخل الموظف الشهري من بين الأدنى في العالم، بما يعادل دولاراً واحداً يومياً.
ثم زاد على ذلك مؤخراً، فقدان الأمن بين الناس، فلا يكاد يمر يومٌ إلا وتُسمع حالة قتل هنا، وسلب واعتداء هناك، واستخدام لأنواع الأسلحة بين الناس لأتفه الأسباب في أية مشكلة عابرة، وسَجَّل لبنان نسبةً عاليةً في حيازة الناس للسلاح الفردي، فيما بات يُعرف بالأمن الذاتي! وبحسب موقع سويسري متخصص برصد ومكافحة انتشار الأسلحة الفردية على مستوى العالم: "يوجد في لبنان 1.927 مليون قطعة لعدد سكان يقدر بنحو 6 ملايين نسمة، ما يعني أنه يحتل الترتيب الثاني عربياً بعد اليمن، والتاسع عالمياً، في عدد قطع السلاح بالنسبة لعدد السكان، ويتفوق على العراق الغارق في فوضى أمنية وسياسية منذ نحو 20 سنة"!
إنَّ حدوث هذين الأمرين في لبنان، الجوع وانعدام الأمن، كَرَّسَ منذ أشهر ظاهرةً مأساويةً، وهي محاولة الناس الخروج من البلد بوسائل غير آمنة، أبرزها ركوب البحر لمحاولة الوصول إلى شواطئ الدول الأوروبية، وقد خَلَّفَ آخرها ما يقرب من مائة ضحية.
هذه المراكب غير الصالحة لمثل هذه الرحلات تخرج من شواطئ لبنان محملةً بأناس باعوا متاعهم وكل ما يملكون، وحملوا المستضعفين من نسائهم وأولادهم، حتى الرُضع منهم، من أهل لبنان وفلسطين وسوريا على متنها، ثم تغرق هذه القوارب في عرض البحر، في مشاهد تدمي القلب بين صراخ الأطفال والنساء والرجال، ومشهد مَنْ يتخلص من جثة ابنه قبل أن تتعفن بعد موته في حالة عطش وجوع وشرب لماء البحر، أو جثة رضيع طافية، أو مَنْ اعتصر قلبه حرقةً لأنه لم يستطع أن ينقذ صديقه الذي لا يعرف السباحة، أو مَنْ ناجى ما بقي من متاع طفله صارخاً يا الله.
فعلى مَنْ تقع مسؤولية ما يحدث اليوم مِنْ جوع وانعدام للأمن؟! وهل مِنَ الصحيح إيقاعه على كاهل الناس؟!
إننا في حزب التحرير في ولاية لبنان، نرفع الصوت عالياً بتحميل السلطة اللبنانية وأجهزتها كامل المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع، بسبب غياب الدولة وأجهزتها الناجم بشكل واضح وأساسي عن الفساد المستشري في الطبقة السياسية الحاكمة أولاً، وعدم السير الحقيقي في أية حلول متاحة ثانياً.
إنَّ السلطة وأجهزتها على دراية بخروج مثل هذه القوارب من شواطئ لبنان، بل إنَّ بعض المهربين يأخذ طالبي الهجرة إلى الشواطئ في قوافل واضحة، وأكثر هؤلاء المهربين معروفون عند أجهزة السلطة؛ فأين أجهزة السلطة والتقنيات التي تملكها لمراقبة حركة السفن؟! وأين أجهزة الأمن متعددة الأسماء والصفات والأعمال التي تتراكض من زاوية إلى أخرى عند رغبة السياسي والسلطة؟!
إنَّ الأمر هو متاجرة هذه السلطة بأرواح هؤلاء الناس من أهل لبنان وفلسطين وسوريا، والتلويح بهم كورقة لاستجرار معونات الدول المانحة، وإلا ماذا يعني تصريح وزير البيئة في السلطة اللبنانية ناصر ياسين على قناة الجزيرة يوم 2022/9/24م من أنَّ الحل هو فتح باب الهجرة النظامية من قِبل الدول الأوروبية لطالبي الهجرة؟ وماذا يعني تصريح وزير الشؤون الاجتماعية للسلطة اللبنانية هيكتور الحجار في خبر على قناة الجزيرة في اليوم نفسه من أنهم حذروا المجتمع الدولي من عدم قدرة لبنان على تحمل عدد اللاجئين السوريين الكبير؟! هذا عِلاوةً على تصاريح رئيس الوزراء المكلف نجيب ميقاتي بشأن اللاجئين، وتصاريح البطرك بحدوث حرب بسبب وجود اللاجئين!
إنَّ هذه التصاريح المتعالية عن واجب الدولة والسلطة في الرعاية، وتغافل السلطة وأجهزتها عن هؤلاء المتاجرين بألم الناس لا يعني إلا شيئاً واحداً: أيتها الدول المانحة إما أن تدفعوا لنا الأموال، أو نلقي بأرواح هؤلاء اللاجئين في وجوهكم!
وبالمحصلة، ينعدم الغذاء وينعدم الأمن في لبنان، بينما تجمع فئةٌ قليلةٌ من أهله بين السلطة والمال، يورثها الآباء للأبناء! تجمع هؤلاء الأغنياء أرباب السلطة نواديهم وأموالهم، بينما يُشغِلون الناس بالصراع من أجل لقمتهم، بل والصراع بحسب طوائفهم! وقتل بعضهم بعضاً، وإيراد أنفسهم المهالك من أجل ترك البلد بسبب انعدام الأمن واليأس من السلطة وأجهزتها.
أما أنتم يا أهلنا، فلا نقول إنه تقع عليكم مسؤولية هذا الوضع المتردي، فأنتم من تصطلون بناره، لكن نقول مُذكرين:
ما يقع علينا وعليكم هو التغيير على هؤلاء الفسدة، وعدم استمرار السكوت على قبول مشاهد الموت اليومي في الشوارع والبحار، بل والانتحار؛ ويقع على كل شريفٍ بشكل عام في لبنان السير في عملية تغيير ورفض هذه الطبقة السياسية الفاسدة.
وهنا نُذكر الناس بمن انتخبوهم بالأمس القريب ليمثلوهم في المجلس النيابي، فماذا كانت النتيجة؟! صاروا نواباً فزادت معهم النوائب! وها هي مدنكم، بل حواضر شاطئ المتوسط والشام، صور وصيدا وبيروت وطرابلس، التي يزعم هؤلاء النواب ومن انتخبهم تمثيلها، تغرق في العتمة والعطش، وتغرق في الفقر، ويغرق أبناؤها في البحر! فأين وعود الأمس القريب بالتغيير من ضمن المنظومة؟!
إنَّ هؤلاء لا يملكون حلولاً إلا من جنس المنظومة نفسها! المنظومة الفاسدة التي تحمل هلاكها في ذاتها، ومن العبث محاولة الحل من خلالها، وهو ما حذر منه حزب التحرير في ولاية لبنان في إصداراته المكتوبة والمرئية خلال الانتخابات في شهر أيار 2022م، والتي أصدرها في حينه محذراً من المشاركة في العملية الانتخابية، منها إصدارٌ بعنوان (لا يجوز الترشح أو التصويت في الانتخابات النيابية...) وآخر بعنوان (على أبواب الانتخابات ودعوات تكثيف المشاركة في إثمها).
وها نحن هنا مرةً أخرى، نخاطب كُلَّ أهل لبنان، نعم كُلَّ أهل لبنان، وليس المسلمين فقط، بالقول الحق، الذي يجب أن يفهمه ويقبله ويعمل به كُلُّ حر عاقل قادر، عِلاوةً على أنه واجب على المسلم القادر، قول رسول الله ﷺ فيما رواه الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بالْمَعْرُوفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّه أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلا يُسْتَجابُ لَكُمْ». وبقول رسول الله ﷺ فيما رواه أبو داود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه: «واللَّه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، ولتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، ولَتَأْطرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْراً، ولَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْراً، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّه بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ ليَلْعَنكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ - أي بني إسرائيل -».
إنَّ رعاية الشؤون هي مِنْ واجب الدولة والسلطة، وإنَّ محاسبة الحاكم الظالم والفاسد هي مِنْ واجب الناس، قال رسول الله ﷺ فيما رواه النسائي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: إِني سمعت رسول اللَّه ﷺ يقول: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّه بِعِقَابٍ مِنْهُ».
إنَّ حزب التحرير في ولاية لبنان يدعوكم للعمل معه في طريقة التغيير التي ينتهجها بمنهج واضح متكامل لبناء الدولة، ليست أية دولة، بل الدولة التي أرادها الحكيم العليم سبحانه، الدولة التي تعبر عن حقيقة الاستخلاف في الأرض الذي يريده الله سبحانه وتعالى ليس للمسلمين فقط بل للبشرية، الدولة الإسلامية؛ الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
التاريخ الهجري :30 من صـفر الخير 1444هـ
التاريخ الميلادي : الإثنين, 26 أيلول/سبتمبر 2022م
حزب التحرير
ولاية لبنان