بسم الله الرحمن الرحيم
لا يَعِدُ التصويت في الانتخابات والمشاركة في النظام السياسي إلّا بالسراب،
فالجالية لا تتقدّم إلّا بظهورها كجالية نموذجية ومستقلة ومتميزة
يصادف يوم السبت 7 أيلول 2013 ، يوم الانتخابات للحكومة الاتحادية الأسترالية. فكما هو الحال دائماً، شهدت الحملة الانتخابية محاولة جميع الأطراف السياسية إلى كسب أصوات المسلمين. فقد أمضى وزير الخارجية بوب كار أول أيام العيد في المساجد الكبرى في سيدني مغازلاً الأصوات المسلمة، وهو الذي فرغ للتوّ من تجريم أي دعمٍ مادي للمقاومة الإسلامية في سورية وإضفاؤه الشرعية على الانقلاب العلماني للسيسي في مصر، وكذلك فعل الشيء نفسه زعيم المعارضة توني أبوت، الصديق الدائم لـ"إسرائيل" ، من خلال موائد الإفطار مع الأئمة خلال شهر رمضان.
كلا الجانبين في العملية السياسية، العمال والأحرار على حد سواء، معروفون بهجماتهم وسعيهم الدائم لشيطنة الإسلام والمسلمين، وكذلك دعمهم للسياسات الداخلية والخارجية ضد الإسلام. فعندما يحين وقت الانتخابات نرى مواقفهم كما لو أنهم أقرب أصدقائنا! إنهم يسعون لخداع المؤمنين وما هو إلّا خداعٌ لأنفسهم!
هناك أصوات تروج في أوساط الجالية الإسلامية لفكرة المشاركة والتصويت، على اعتبار أنها تخدم تقدم الجالية ومصالحها. وهي أصوات صادقة في مسعاها، وتستحق الإشادة بجهودها وبإخلاصها. إلا أننا نرى أن دفعها باتجاه المشاركة غير مبني على أساس سليم، ورؤيتها للواقع غير شاملة. فلا بد حين التصدي لدراسة موضوع التصويت والمشاركة السياسية ضمن النظام الديمقراطي العلماني، أن نُلمَّ قبل كل شي بالحكم الشرعي في هذا الموضوع، ومن ثم نفهم الموقف السياسي المتعلق بالتصويت.
أما في ما يتعلق بالحكم الشرعي، فإن نظام الحكم الديموقراطي العلماني هو نظام كفر غير إسلامي، والوسيلة إلى الحرام حرام، وبالتالي فإن المشاركة في الحكم أو التشريع في هذا النظام تكون حراماً، لأنها تعني المشاركة في الحكم بخلاف ما أمر به الله سبحانه وتعالى، حيث أخبرنا في الآية الكريمة: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
وأمّا في ما يتعلق بالتصويت، وهو فعل للاختيار بين أمرين أو بين عدد من الاحتمالات، فالأصل في الاختيار أنه فعل مباح، إلا أن الإباحة هنا مشروطة بكون كل الأمور التي ينتخب من بينها أو من أجلها غير محرمة، فإن كانت محرمة تصبح عملية الاختيار نفسها حراماً. فمثلا لو كان التصويت بين أصدقاء للاختيار بين من يريد قهوة أو شايًا فيكون ذلك مباحاً، بينما لو كان التصويت يتعلق باختيار من يقود عملية سرقة فإنه يصبح حراماً لأن كلا الأمرين حرام. ولما كان واقع التصويت في الانتخابات البرلمانية في النظام السياسي الرأسمالي العلماني هو لاختيار أشخاص يقومون بالتشريع والحكم على غير أساس الإسلام، وهو محرم شرعاً، فإن ذلك التصويت يصبح أمراً محرماً.
إنّ انتخاب شخص ما هو أيضا شكل من أشكال "الوكالة"، حيث يتصرّف الشخص المنتخب نيابة عمّن انتخبوه. ومن شروط الوكالة في الإسلام أن العمل المتعاقد عليه هو في مسألة جائزة شرعاً، وإلا كانت وكالة غير صالحة ومحرّمة. وهكذا، فالتصويت لصالح مرشحين من الأحزاب السياسية العلمانية محظور لأن الانتخابات ليست فقط لشخص، ولكن أيضا لبرنامجه الانتخابي الذي يتعارض مع الإسلام في كثير من تفاصيله. علاوة على ذلك، وكما هو معروف في الفكر السياسي الغربي، يمثل التصويت نقلا للسيادة من الشعب إلى ممثليهم الذين سوف يمارسون ذلك نيابة عنهم. وهذا يفترض فكرة أن الشعب هو السيد، الذي يتناقض مع الموقف الإسلامي، أن السيادة هي لله (سبحانه وتعالى) وحده.
إنه من الخطأ القول أنه يجب علينا المشاركة في النظام السياسي العلماني للحصول على منافع معينة للجالية المسلمة. صحيح أنه من خلال التصويت التكتيكي قد نؤثر على بعض التشريعات لصالحنا، من تأمين لبعض التمويل، أو تسهيل إنشاء المدارس الإسلامية والمساجد، وما شابه ذلك. ومع ذلك، فالمنفعة ليست هي معيار العمل في الإسلام. إنّ معيار العمل هو الحلال والحرام كما هو منصوص عليه من قبل الشريعة الإسلامية، والمنفعة الحقيقيّة تكمن في التمسك بالشريعة. فعندما نريد القيام بأي عمل كمسلمين، فإن الاعتبار الأول لدينا ليس هو المنفعة أو الضرر، بل هل هو مسموح أم محظور؟ حلال أم حرام؟ فلا يمكن لأي منفعة أن تجعل الحرام حلالاً.
أما بالنسبة للواقع السياسي فهو أمرٌ يستحق التمعّن فيه، فنحن بحاجة إلى فهم واقع النظام الديمقراطي، والتعلم من تجارب أولئك المسلمين في أوروبا وأمريكا الذين ذهبوا في طريق المشاركة الانتخابيّة. في الماضي القريب، طُلب من المسلمين التصويت لأمثال جورج بوش وتوني بلير وباراك أوباما، إلا أن الواقع يشهد، في كل حالة، كيف أنّ أولئك الطغاة عينهم، أطلقوا العنان لسياساتهم التدميرية ضد الإسلام والمسلمين عند انتخابهم. بعد سنوات عديدة من المشاركة، ماذا اكتسبت الجاليات الإسلاميّة؟ فهي لا تزال تعاني من الهجمات المستمرة عليها والتضليل الإعلامي بحقّها، وإغلاق المساجد، والصعوبات الجمّة في فتح مراكز جديدة، والمراقبة المتواصلة غير المبررة من قبل وكالات الاستخبارات، والحبل على الجرّار.
والحقيقة، هي أن النظام الذي يُطلب منا المشاركة فيه فاسد بطبيعته ومفلس أخلاقياً، حيث تمثل الديمقراطيات الليبرالية الغربية الحديثة أنظمة تخدم أساساً النخبة الاقتصادية على حساب المواطن العادي. إنّ الفساد وجماعات الضغط تؤثّر بما لا يمكن تجاهله في إدارة البلاد. فالسياسيون والأحزاب السياسية هي في الغالب فاسدة وغير كفؤة وديمقراطيتهم فقط لخدمة مصالح ذاتية. وبالتالي، فإنَّ الاعتقاد بأنّ أصوات الناخبين قادرة على تغيير معتبر في السياسة العامّة هو مجرد وَهْم.
في العالم الإسلامي تمتلئ البرلمانات بالنواب المسلمين، ورغم ذلك فوضع المسلمين في تلك البلدان أكثر من كئيب. فكيف نعتقد أنه من خلال انتخاب عدد قليل من النواب المسلمين أو أولئك القريبين من المسلمين إلى البرلمان سوف نحقق التغيير؟ لقد رأينا بالفعل أن بضعة نواب مسلمين في برلمانات بريطانيا، وهنا في أستراليا قد تركوا الإسلام على باب البرلمان عندما دخلوه، وفي العديد من الحالات نراهم اتخذوا جانب حزبهم السياسي حتى عندما يتعارض مع موقف الإسلام أو مصالح الجالية الإسلاميّة. فتصويت عضو البرلمان المسلم في بريطانيا مؤخراً لصالح زواج مثليّي الجنس ليس سوى أحد الأمثلة، وما أكثرها!
في الواقع ، إنّ الفوائد المرجو تحقيقها من خلال المشاركة في العملية السياسية العلمانية، لا تأتي إلا على حساب إهانة أنفسنا بأن نكون جزءاً من نظام فاسد، وبالتالي إضفاء الشرعية عليها، وكثير من القوانين الّتي نصوت لها غير إسلامية وبعض منها، مسؤولة بشكل مباشر عن إراقة دماء إخواننا وأخواتنا في العالم الإسلامي، فكيف يليق بالمسلم المشاركة في مثل تلك الأنظمة! ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾.
فبعد توضيح ما سبق ، يتبيّن لنا أنّ عدم المشاركة في النظام لا يعني "العزلة"، أي أننا بذلك نعزل أنفسنا، ومن ثمّ لا يجب علينا فعل شيء، بل يجب علينا أن نكون نشيطين سياسياً، ولكن على أساس الإسلام. فالإسلام يحدد بالتفصيل شكلاً فريداً وواضحاً من النشاط، حيث لا يتم المساس بالمبادئ، ولا يتم التخلي عن الأهداف، ولا يتمّ المراوغة بالأساليب.
أحد الدروس الأساسية في دعوة رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم في مكة، هي أهمية النشاط بين الناس، حيث يظهر كشكل فريد من أشكال النشاط، الذي يتحدى بشكل إيجابي أي شيء يتعارض مع الإسلام، ويسعى في الوقت نفسه لبناء بديل سامٍ. وهذا بالذات هو النهج الذي سمح النبي صلّى الله عليه وسلّم به، وكذلك من خلال الوحي، وحدد أهدافه وطريقة المشاركة فيه. أما الموافقة على العمل ضمن قواعد النظام السياسي القائم، والموافقة على تحديد أهداف ومبادئ وطريقة المشاركة ضمن نطاق ما يحدده هذا النظام فهو في الواقع إقناع للجالية الإسلامية للدخول في النظام السياسي القائم، وهي النقطة المركزية في جدول الأعمال لكل حكومة، لصهر الجميع في بوتقتها.
وبالتالي، يجب أن ننخرط في المجتمع على جميع مستوياته، ولكن بشروطنا والأهداف المحددة حصراً التي يحددها الإسلام. يجب علينا العمل من أجل تعزيز وجود مجموعة موحدة ومستقلة وقوية قادرة على الانخراط الإيجابي، حيث نكون متميّزين لنكون قدوة في المجتمع.
إنّ أهمية وحدة الجالية أمر بديهي، لكن من أجل الوحدة، أن نكون قوة فكرية واقتصادية وسياسية عن طريق المشاركة في الحياة السياسية كحزب علماني فهو أمر مرفوض تماماً، وكذلك الدعوة إلى الانضمام أو دعم العمال أو الأحرار أو الخضر أو غيرها فإنه تقسيم لجاليتنا على أسس حزبية، وخلق المرارة والشقاق بين أفرادها.
إنّ استقلالية جاليتنا ومؤسساتها هي أمر حيوي كذلك، فلا يجب أن نسمح بالمساومة عليها بالاعتماد على الحكومة وتمويلها، الذي لا يأتي بدون ابتزاز لمن يرتبط بها، والتي تجعل منهم أسرى لا يجرؤون على الخروج عن الخط العام للحكومة، وتجعلهم يفكرون مليّاً قبل أن ينتقدوا الحكومة عندما يجب انتقادها، كسياستها الخارجيّة الجائرة. إنّ التمويل قد أخذ منحىً جديداً في الوقت الراهن، عندما خُصّص لمؤسسات إسلامية وشيوخ بعينهم دون غيرهم أخذوا على عاتقهم تدريس النسخة الهجينة من الإسلام "الوسطي" لمواجهة المد الأصولي في الجالية بالنيابة عن الحكومة. الأمر نفسه يمكن تطبيقه على المشاركة السياسية، فكلما زاد ارتباطك بالنظام السياسي، كلما تحوّلت إلى رهينة للتيار العلماني وأسيراً عند من بيده السلطة.
وأما في ما يتعلق بالسؤال المهم حول قدرتنا على بناء المساجد، وافتتاح مراكز جديدة، ومدارس، وتوفير تسهيلات وتوفير الأطعمة الحلال، والتمويل، وما شابه ذلك بدون المشاركة في الانتخابات، فإن علينا أن ندرك أن معظم هذه الاحتياجات هي من حقوقنا كمواطنين، ولا داعي لأن نعتبرها فضلاً نستجديه أو مِنّة يمنّون بها علينا، وليست المشاركة السياسية من شروط حصول الناس على حقوقهم. والواقع أن أغلب الناس في الدول الغربية لا ينتخبون ويتخذون مواقف سلبية من مجمل النظام السياسي. ومع ذلك لا يفقدون حقوقهم الأساسية كمواطنين. وبالتالي ما نحتاج إليه حقاً، هو أن نطالب بحقوقنا بحزم، بالقول والعمل، وهذه المطالبة تكون أسهل لو كنّا خارج المنظومة السياسية القائمة، وليس فيها. أما ما يتعلق بالمطالب التي لا تعتبر من الحقوق الأساسية، فإنّ بالإمكان تحقيقها كمشاريع خاصة تمولها الجالية، وسجلاتنا في هذا المجال تتحدث عن نفسها، فلقد بنت الجالية مساجد عديدة ومدارس ومراكز ومشاريع لتوفير الطعام الحلال، اعتماداً على مساهمات أبناء الجالية وجهودهم التي لم تفتر، وبدون مساعدات من الحكومة.
إنّ وجود جالية مستقلة وقوية، يكون بأهم ما تملكه الجالية من رجال ونساء وشبان يتحلون بالإخلاص والمواظبة والالتزام بالمبادئ، وعندئذ سيمكننا السير قدماً للتعامل مع كل قضايانا الأساسية.
أمّا على الصعيد الخارجي، فيجب أن نتحدّى السياسة الخارجيّة الغربيّة ودور الحكومة الأستراليّة في ذلك، ويجب أن نعارض تلك السياسات التي تساهم بقتل المسلمين في العالم الإسلامي، ويتحتّم علينا دعم العمل لإقامة الخلافة في العالم الإسلامي بكل الوسائل المتاحة، والتي تعدّ الحلّ الجذري الأوحد للتحدّيات التي تواجه المسلمين.
وفي ما يتعلق بالاحتياجات المحلية، فإنه يتوجب إيجاد مؤسسات مستقلة تنشر مبادئ الإسلام، وتعمل على تخريج شخصيات إسلامية قوية، تتصدى للدعايات المعادية للإسلام، وتتولى تبليغ الدعوة الإسلامية للمجتمع كله. إن نظرة خاطفة حولنا، تكشف عن وجود مجتمع يعاني من مشاكل عديدة، ويسوده السخط على الأحوال الاجتماعية على نطاق واسع. ولذلك يجب على المسلمين أن يكونوا هم الجانب المشرق في المجتمع، والشعاع الهادي الذي يجتذب المخلصين ومنفتحي الذهن من الأستراليين، ممن يتوقون إلى الحياة الهنيئة والحلول الحقيقية للمشاكل، ولا يكون ذلك إلا حين نغدو المثال الذي يُحتذى، ونحمل الدعوة الإسلامية قولاً وعملاً للجميع.
أيها المسلمون! أنتم خير أمة أخرجت للناس. إن الرضا بالواقع والركون إليه لا يليق بكم، وكذلك العمل من أجل مصالح آنيّة، بل يتحتم عليكم أن تنشطوا لإيجاد وتنفيذ أهدافنا المستندة إلى الإسلام وحده. فنحن كلما تخاذلنا أمام النظام والواقع الراهن سنجد أنفسنا نزداد هبوطا في مهاوي التنازلات الواقعية، ونعمد عن غير قصد إلى تأويل الإسلام بما يوافق الواقع، مما يجلب سخط الله علينا، بدلاً من تحويل الواقع ليتطابق مع الإسلام، وبالتالي نفوز بمرضاة الله سبحانه وتعالى الذي أمرنا بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾.
التاريخ الهجري :23 من شوال 1434هـ
التاريخ الميلادي : الجمعة, 30 آب/أغسطس 2013م
حزب التحرير
أستراليا