- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح53) إخفاق القيادتين الشيوعية والرأسمالية
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّالِثَةِ وَالخَمْسِينَ, وَعُنوَانُهَا: "إِخفَاقُ القِيَادَتَينِ الشُّيوعِيَّةِ والرَّأسْمَالِيَّةِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ التَّاسِعَةِ وَالثَّلاثِينَ مِنْ كِتَابِ "نظَامِ الإِسلامِ" لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: "أمَّا القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الشُّيُوعِيَّةُ فَهِيَ مَبنِيَّةٌ عَلَى المَادِّيَةِ وَلَيسَ عَلَى العَقْلِ، وَإِنْ تَوَصَّلَ إِلَيهَا العَقْلُ، لأنَّهَا تَقُولُ بِوُجُودِ المَادَّةِ قَبلَ الفِكْرِ، وَبِجَعْلِهَا أَصْلَ الأشيَاءِ، فَهِيَ مَادِّيَّةٌ. وَأمَّا القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الرَّأسْمَاليَّةُ فَهِيَ مَبنِيَّةٌ عَلَى الحَلِّ الوَسَطِ الَّذِي تَوَصَّلَتْ إِلَيهِ مِنَ النِّزَاعِ الدَّامِي الَّذِي اسْتَمَرَّ عِدَّةَ قُرُونٍ بَينَ رِجَالِ الكَنِيسَةِ وَرِجَالِ الفِكْرِ، وَأنْتَجَ فَصْلَ الدِّينِ عَنِ الدَّولَةِ. لِذَلِكَ كَانَتِ القِيَادتَانِ الفِكرِيَّتَانِ الشُّيُوعِيَّةُ وَالرَّأسْمَالِيَّةُ مُخْفِقَتَيْنِ، لأنَّهُمَا مُتَنَاقِضَتَانِ مَعَ الفِطْرَةِ، وَغَيرُ مَبْنِيَّتَيْنِ عَلَى العَقْلِ. وَالحَاصِلُ أنَّ القِيَادَةَ الفِكرِيَّةَ الإسلاميَّةَ هِيَ وَحْدَهَا القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَمَا عَدَاهَا قِيَادَاتٌ فِكرِيَّةٌ فَاسِدَةٌ، لأنَّ القِيَادَةَ الفِكرِيَّةَ الإِسلامِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى العَقْلِ، فِي حِينِ أنَّ القِيَادَاتِ الفِكرِيَّةَ الأُخرَى غيرُ مبنيَّةٍ عَلَى العَقْلِ، وَلأنَّهَا قِيَادَةٌ فِكرِيَّةٌ تَتَّفِقُ مَعَ فِطْرَةِ الإِنسَانِ، فَيَتَجَاوَبُ مَعَهَا فِي حِينِ أنَّ القِيَادَاتِ الفِكرِيَّةَ الأُخْرَى تُخَالِفُ فِطْرَةَ الإِنسَانِ. وَذَلِكَ: أنَّ القِيَادَةَ الفِكرِيَّةَ الشُّيوعِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى المادِّيَّةِ لا عَلَى العَقْلِ، لأنَّها تَقُولُ: إِنَّ المَادَّةَ تَسْبِقُ الفِكْرَ، أيْ تَسْبِقُ العَقْلَ، وَلِذَلِكَ فَالمَادَّةُ حِينَ تَنْعَكِسُ عَلَى الدِّمَاغِ تُوجِدُ بِهِ الفِكْرَ، فَيُفَكِّرُ فِي المَادَّةِ الَّتِي انْعَكَسَتْ عَلَيهِ. أمَّا قَبْلَ انعِكَاسِ المَادَّةِ عَلَى الدِّمَاغِ فَلا يُوجَدُ فكرٌ، وَلِذَلِكَ فَكُلُّ شَيءٍ مَبْنِيٌّ عَلَى المَادَّةِ، فَأصْلُ العَقِيدَةِ الشُّيُوعِيَّةِ أيِ القِيَادَةِ الفِكرِيَّةِ الشُّيُوعِيَّةِ هُوَ المَادِّيَّةُ وَلَيسَ الفِكْرَ".
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يُمكِنُ إِجْمَالُ أبرَزِ الأفكَارِ الوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الفَقرَةِ بِمَا يَأتِي:
أولا: تَتَمَيَّزُ القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الشُّيُوعِيَّةُ عَنْ غَيرِهَا مِنَ القِيَادَاتِ الفِكرِيَّةِ بِمَا يَأتِي:
- القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الشُّيُوعِيَّةُ مَبنِيَّةٌ عَلَى المَادِّيَةِ وَلَيسَ عَلَى العَقْلِ، وَإِنْ تَوَصَّلَ إِلَيهَا العَقْلُ.
- القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الشُّيُوعِيَّةُ تَقُولُ بِوُجُودِ المَادَّةِ قَبلَ الفِكْرِ.
- القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الشُّيُوعِيَّةُ مَادِّيَّةٌ بِجَعْلِهَا المَادَّةَ أَصْلَ الأشيَاءِ.
ثانيا: تَتَمَيَّزُ القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الرَّأسْمَاليَّةُ عَنْ غَيرِهَا مِنَ القِيَادَاتِ الفِكرِيَّةِ بِمَا يَأتِي:
- القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الرَّأسْمَاليَّةُ مَبنِيَّةٌ عَلَى الحَلِّ الوَسَطِ.
- القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الرَّأسْمَاليَّةُ تَوَصَّلَتْ إِلَى الحَلِّ الوَسَطِ مِنَ النِّزَاعِ الدَّامِي الَّذِي اسْتَمَرَّ عِدَّةَ قُرُونٍ بَينَ رِجَالِ الكَنِيسَةِ وَرِجَالِ الفِكْرِ، وَأنْتَجَ فَصْلَ الدِّينِ عَنِ الدَّولَةِ.
ثالثا: القِيَادتَانِ الفِكرِيَّتَانِ الشُّيُوعِيَّةُ وَالرَّأسْمَالِيَّةُ مُخْفِقَتَانِ، لأنَّهُمَا مُتَنَاقِضَتَانِ مَعَ الفِطْرَةِ، وَغَيرُ مَبْنِيَّتَيْنِ عَلَى العَقْلِ.
رابعا: القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الإسلاميَّةُ هِيَ وَحْدَهَا القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَمَا عَدَاهَا قِيَادَاتٌ فِكرِيَّةٌ فَاسِدَةٌ، لِسبَبَينِ اثنَينِ:
- لأنَّ القِيَادَةَ الفِكرِيَّةَ الإِسلامِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى العَقْلِ، فِي حِينِ أنَّ القِيَادَاتِ الفِكرِيَّةَ الأُخرَى غيرُ مبنيَّةٍ عَلَى العَقْلِ.
- لأنَّهَا قِيَادَةٌ فِكرِيَّةٌ تَتَّفِقُ مَعَ فِطْرَةِ الإِنسَانِ، فَيَتَجَاوَبُ مَعَهَا فِي حِينِ أنَّ القِيَادَاتِ الفِكرِيَّةَ الأُخْرَى تُخَالِفُ فِطْرَةَ الإِنسَانِ.
فَالقِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الشُّيوعِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى المادِّيَّةِ لا عَلَى العَقْلِ، لأنَّها تَقُولُ: إِنَّ المَادَّةَ تَسْبِقُ الفِكْرَ، أيْ تَسْبِقُ العَقْلَ، وَلِذَلِكَ فَالمَادَّةُ حِينَ تَنْعَكِسُ عَلَى الدِّمَاغِ تُوجِدُ بِهِ الفِكْرَ، فَيُفَكِّرُ فِي المَادَّةِ الَّتِي انْعَكَسَتْ عَلَيهِ. أمَّا قَبْلَ انعِكَاسِ المَادَّةِ عَلَى الدِّمَاغِ فَلا يُوجَدُ فكرٌ. هَذَا مَا يَقُولُهُ الشُّيُوعِيُّونَ.
لَقَد كُنَّا نَحنُ شَبَابَ حِزْبِ التَّحرِيرِ الصَّخْرَةَ الصَّلْدَةَ الصَّلْبَةَ الَّتِي تَتَحَطَّمُ وتَتَهَاوَى عَلَيهَا عَقِيدَةُ وَأفكَارُ الحِزْبِ الشُّيُوعِيِّ, فَقَد كَانَ شَبَابُنَا يَفهَمُونَ الشُّيُوعِيَّةَ أكثَرَ مِنَ الشُّيُوعِيِّينَ أنفُسِهِمْ, وَكَانَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - قَد ألَّفَ كِتَابًا بِعُنوَانِ: "نَقْضُ الاشتِرَاكِيَّةِ المَاركسِيَّةِ". وَجَعَلَهُ بِاسمِ "غَانِم عَبدُه" كَانَ أحَدَ شَبَابِ الحِزْبِ آنذَاكَ, وَ"النَّقْضُ" فِي اللُّغَةِ مَعنَاهُ الخَلعُ مِنَ الجُذُورِ, مَنْ قَرَأ هَذَا الكِتَابَ وَفَهِمَهُ استَطَاعَ أنْ يَهْزِمَ أكبَرَ شُيُوعِيٍّ عَلَى وَجْهِ الأرضِ!! وَكَانَتْ خَلايَا الشُّيُوعِيِّينَ سُرعَانَ مَا تَتَسَاقَطْ أمَامَ هَجْمَاتِ وَضَرْبَاتِ شَبَابِنَا, وَتَتَحَوَّلَ إِلَى حَلْقَاتٍ لِلدَّارِسِينَ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ, حَتَّى وَصَلُ الأمرُ لِدَرَجَتين اثنَتَينِ: الدَّرَجَةُ الأُولَى: هِيَ أنَّ الشُّيُوعِيَّ كَانَ يَأتِي يَتَشَدَّقُ بِالنَّظَرِيَّةِ الدِّيالكتِيكِيَّةِ, فَيَسألُهُ الشَّابُّ عَنْ بَيَانِ مَعنَاهَا فَلا يَستَطِيعُ, فَيبدَأُ الشَّابُّ بِبَيَانِهِ, فَمَا يَكَادُ يَنتَهِي مِنْ الشَرحِ وَالتَوضِيحِ حَتَّى يَهِمَّ الشُّيُوعِيُّ بِالانصِرَافِ, فَيَستَوقِفُهُ الشَّابُّ؛ لِيُبَيِّنَ لَهُ فَسَادَ وَبُطلانَ هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ فَيَأبَى ذَلِكَ, فَيَكُونُ الشَّابُّ قَدْ عَلَّمَ الشُّيُوعِيَّ الشُّيُوعِيَّةَ!! وَعَلَى إِثرِ ذَلِكَ أصْدَرَ حِزْبُ التَّحرِيرِ تَعمِيمًا يَقُولُ فِيهِ لِشَبَابِهِ:"لا تُعَلِّمُوا الشُّيُوعِيِّينَ الشُّيُوعِيَّةَ". وَفِعْلاً صَارَ شَبَابُ حِزْبِ التَّحرِيرِ بَعدَ صُدُورِ التَّعمِيمِ يَسألُونَ الشُّيُوعِيِّينَ عَنِ الفِكْرَةِ, فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُمْ فَاهِمُونَ لَهَا كَانُوا يَنقُضُونَهَا, وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَاهِمِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُمْ: "اذهَبُوا فَتَعَلَّمُوا الشُّيُوعِيَّةَ ثُمَّ ائتُوا لِمُنَاقَشَةِ شَبَابِ حِزْبِ التَّحرِيرِ!! وَكَانَ شَبَابُ حِزْبِ التَّحرِيرِ بِحُكْمِ خِبرَتِهِمْ العَرِيقَةِ فِي نِقَاشَاتِهِمْ مَعَ النَّاسِ يُصَنِّفُونَ الشُّيُوعِيِّينَ إِلَى صِنفَينِ اثنَينِ: أمَّا الصِّنفُ الأوَّلِ: فَهُوَ صِنْفُ الفَاهِمِينَ لِلفِكْرِ الشُّيُوعِيِّ, وَيُطلِقُونَ عَلَيهِ لَفظَ: "شُيُوعِي شَمَندَرِيِّ"؛ لأنَّهُ كَالشَّمَندَرِ حُمرَةً, فَهُوَ أحْمَرُ مِنَ الدَّاخِلِ وَمِنَ الخَارِجِ, وَكُلَّمَا تَعَمَّقْتَ فِي دَاخِلِهِ ازدَادَ حُمْرَةً. وَأمَّا الصِّنفُ الثَّانِي: فَهُوَ صِنفُ غَيرِ الفَاهِمِينَ لِلفِكْرِ الشُّيُوعِيِّ, وَيُطلِقُونَ عَلَيهِ لَفظَ: "شُيُوعِي فِجْلِيّ"؛ لأنَّهُ أحْمَرُ مِنَ الخَارِجِ, وَأبيَضُ مِنَ الدَّاخِلِ, وَكُلَّمَا تَعَمَّقْتَ فِي دَاخِلِهِ ازدَادَ بَيَاضًا. وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ أنَّ الحِزْبَ الشُّيُوعِيَّ لَمَّا رَأى شَبَابَهُ يَتَسَاقَطُونَ وَيَفشَلُونَ فِي نِقَاشَاتِهِمْ مَعَ شَبَابِ حِزْبِ التَّحرِيرِ أصْدَرَ تَعمِيمًا عَلَى شَبَابِهِ يَقُولُ لَهُمْ فِيهِ: "لا تُنَاقِشُوا شَبَابَ حِزْبِ التَّحرِيرِ".
وَالحَقُّ أنَّ الشُّيُوعِيِّينَ هُمْ أوَّلُ مَنْ حَاوَلَ تَعرِيفَ العَقْلَ تَعرِيفًا دَقِيقًا وَصَحِيحًا بَعدَ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ, لَكِنَّهُمْ وَصَلُوا إِلَى نِصْفِ الجَوَابِ الصَّحِيحِ, وَإِنَّ إِنكَارَهُمْ لِوُجُودِ الخَالِقِ هُوَ الَّذِي مَنَعَهُمْ مِنَ التَّوَصُّلِ إِلَى النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الجَوَابِ, فَذَكَرُوا رُكنَينِ هَامَّينِ مِنْ تَعرِيفِ العَقْلِ وَهُمَا: المَادَّةُ وَالدِّمَاغُ, وَلَكِنَّ العَمَلِيَّةَ العَقلِيَّةَ لا تَتِمُّ إِلاَّ بِوُجُودِ رُكنَينِ آخَرَينِ إِضَافَةً إِلَى الرُّكنَينِ السَّابِقَينِ. فَلِكَي تَتِمَّ العَمَلِيَّةُ العَقلِيَّةُ لا بُدَّ لَهَا مِنْ أربَعَةِ أركَانٍ هِيَ: المَادَّةُ وَالدِّمَاغُ وَالحَوَاسُّ وَالمَعلُومَاتُ السَّابِقَةُ. وَيَنبَغِي أنْ تَكُونَ هَذِهِ الأركَانُ الأربَعَةُ مُجتَمِعَةً كُلُّهَا مَعًا حَتَّى تَتِمَّ, فَإِذَا فُقِدَ رُكْنٌ وَاحِدٌ مِنهَا فَإِنَّهَا لا تَتِمُّ. لِذَلِكَ فَقَدْ عَرَّفَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ العَقْلَ وَالإِدرَاكَ وَالتَّفكِيرَ, وَهَذِهِ المُسَمَّيَاتُ كُلُّهَا بِمَعنَى وَاحِد, فَقَالَ: العَقلُ هُوَ نَقلُ الإِحسَاسِ بِالوَاقِعِ إِلَى الدَّمَاغِ الَّذِي فِيهِ قُوَّةُ الرَّبطِ عَنْ طَرِيقِ إِحدَى الحَوَاسِّ, وَوُجُود مَعلُومَاتٍ سَابِقَةٍ يُفَسَّرُ بِوَسَاطَتِهَا الوَاقِعُ. لَقَدْ أشرَفَ عَلَينَا فِي مَطلَعِ الثَّمَانِينَاتِ الشَّيخُ وَالعَالِمُ الجَلِيلُ يُوسُف أحْمَد السَّبَاتِين - رَحِمَهُ اللهُ وَأسكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّاتِهِ – وَلِكَي يُثبِتَ لَنَا ضَرُورَةَ وُجُودِ المَعلُومَاتِ السَّابِقَةِ لِتَتِمَّ العَمَلِيَّةُ العَقلِيَّةُ أخْرَجَ لَنَا مِنْ جَيبِهِ بِطَاقَةً مَرسُومًا عَلَيهَا الرَّسمُ الآتِي:
ثُمَّ عَرَضَهَا عَلَى أعْضَاءِ الحَلقَةِ وَاحِدًا وَاحِدًا وَقَالَ: مَنْ مِنكُمْ يَستَطِيعُ أنْ يَقرَأ العِبَارَةَ الآتِيَةَ؟ فَلَم يَستَطِعْ أحَدٌ مِنَ الأعضَاءِ الدَّارِسِينَ قَرَاءَتَهَا, وَأعلَنُوا وَأعرَبُوا عَنْ عَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ, فَقَالَ لَنَا: وَأنَا أيضًا لَو عُرِضَ عَلَيَّ كِتَابٌ بِاللُّغَةِ الصِّينِيَّةِ أوِ الألمَانِيَّةِ فَإِنَّنِي أعْجَزُ عَنْ قِرَاءَتِهِ كَمَا عَجِزْتُم أنتُمُ الآنَ, فَأنَا لا تُوجَدُ لَدَيَّ مَعلُومَاتٌ سَابِقَةٌ عَنْ هَاتَينِ اللُّغَتَينِ, وَأنتُمْ كَذَلِكَ لا تُوجَدُ لَدَيكُمْ مَعلُومَاتٌ سَابِقَةٌ عَنِ الحُرُوفِ الَّتِي تَشَكَّلَتْ مِنهَا هَذِهِ العِبَارَةُ. فَقَلنَا لَهُ: وَمَا هِيَ هَذِهِ العِبَارَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ كَلِمَةُ التَّوحِيدِ: "لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ".
فَقُلْنَا لَهُ: وَكَيفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِلَيكُم هَذِهِ الرُّمُوزَ وَالحُرُوفَ التي ترمز إِلَيهَا, لَقَدَ وَضَعْتُ هَذِهِ الرُّمُوزَ مِنْ تِلقَاءِ نَفسِي, وَلا يَستَطِيعُ أحَدٌ غَيرِي أنْ يَقرَأ مَا أكتُبُ إِلاَّ إِذَا أخْبَرتُهُ كَمَا أخَبرتُكُمْ, عِندَهَا فَقَط يُصبِحُ لَدَيهِ وَلَدَيكُمْ مَعلُومَاتٌ سَابِقَةٌ تُفَسِّرُونَ بِهَا المَادَّةَ المَكتُوبَةَ الَّتِي وَقَعَتْ تَحتَ حَاسَّةِ البَصَرِ لَدَيكُم: هَذَا رَمزٌ لِحَرفِ الَّلامِ, وَهَذَا رَمزٌ لِلألِفِ, وَهَذَا رَمزٌ لِلهَاءِ, وَهَذَا الرَّمزُ مَعَ هَذَا الرَّمزِ يُشَكِّلانِ حَرفَ النَّفيِ "لا" , وَهَذَا رَمزٌ لِلهَمزَةِ المَكسُورَةِ, وَهَذِهِ الرُّمُوزُ الثَّلاثَةُ تُشَكِّلُ حَرْفَ الاستِثنَاءِ "إِلاَّ". وَإِلَيكُمْ هَذِهِ الصُّورَةَ الَّتِي تَجْمَعُ تِلْكَ الرُّمُوزِ مَعَ الحُرُوفِ الَّتِي تَرمِزُ إِلَيهَا.
هَلْ عَرَفْتُمُ الآنَ أهَمِّيةَ وُجُودِ المَعلُومَاتِ السَّابِقَةِ؟ تَعَالَوا بِنَا نَتَبَيَّنُ كَيفَ تَشَكَّلَتْ عِبَارَةُ التَّوحِيدِ هَذِهِ: هَذَانِ الرَّمزَانِ يُشَكِّلانِ حَرْفَ النَّفي: "لا".
وَهَذِهِ الرُّمُوزُ الأربَعَةُ تُشَكِّلُ كَلِمَةَ: "إِلَه".
وَهَذِهِ الرُّمُوزُ الثَّلاثَةُ تُشَكِّلُ حَرْفَ الاستِثنَاءِ: "إِلاَّ".
وَهَذِهِ الرُّمُوزُ الأربَعَةُ تُشَكِّلُ لَفظَ الجَلالَةِ: "الله".
وَهَذِهِ هِيَ المُحَصِّلَةُ النِّهَائِيَّةُ كَلِمَةُ التَّوحِيدِ بِرُمُوزٍ جَدِيدَةٍ مِنْ وَضْعِ عَالِمِنَا وَأُستَاذِنَا الشَّيخِ الجَلِيلِ يُوسُف السَّباتِين رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً.
وَالجَدِيرُ بِالذِّكرِ أنَّ الشَّيخَ كَانَ قَد وَضَعَ مِنْ تِلقَاءِ نَفسِهِ رَمزًا لِكُلِّ حَرْفٍ مِنَ الحُرُوفِ الهِجَائِيَّةِ, وَكَانَ وَهُوَ فِي مَوضِعِ المَسؤُولِيَّةِ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ يَحْمِلُ دَفترًا يَكُتُبُ فِيهِ كُلَّ المَعلُومَاتِ المُتعَلِّقَةِ بِإِدَارَةِ الحِزْبِ, وَكَانَت تَقَعُ فِي أيدِي أجهِزَةِ المُخَابَرَاتِ, فَيَسألُونَهُ عَنهَا فَيَقُولُ لَهُمْ: هَا هِيَ أمَامَكُمُ اقرَؤُوهَا وَاعرِفُوا مَا فِيهَا, فَيَقُومُونَ بِعَرِضهَا عَلَى خُبَرَاءِ الخُطُوطِ, يُحَاوِلُونَ تَحلِيلَهَا, وَتَفسِبرَ مَا جَاءَ فِيهَا فَلا يَستَطِيعُونَ!!
وَقَد تَعَلَّمْتُ مِنْ أُستَاذِي الجَلِيلِ هَذِهِ الطَرِيقَةَ فِي إِثبَاتِ ضَرُورَةِ وُجُودِ المَعلُومَاتِ السَّابِقَةِ كَي تَتِمَّ العَمَلِيَّةُ العَقلِيَّةُ. فَقَد كُنتُ أسألُ الدَّارِسِينَ عَنْ مَعَانِي بَعضِ الكَلِمَاتِ الَّتِي أتَوقَّعُ عَدَمَ وُجُودِ مَعلُومَاتٍ سَابِقَةٍ لَدَيهِمْ عَنهَا, فَكُنتُ أسألُهُم عَنْ مَعنَى "الوَلِيمَةِ" فَسُرعَانَ مَا كَانُوا يُجِيبُونَ, إِنَّهَا طَعَامُ الفَرَحِ الذي يقدم فِي الأعرَاسِ وَالمُنَاسَبَاتِ السَّعِيدَةِ, وَلَكِنْ حِينَ كُنتُ أسألُهُمْ عَنْ مَعنَى "الوَضِيمَةِ" فَلا يَعرِفُونَ أنَّها تَعنِي طَعَامَ الحُزنِ الَّذِي يُقَدَّمُ فِي المآتِمِ وَالمُنَاسَبَاتِ الحَزِينَةِ. وَكُنتُ أسألُهُم عَنْ مَعنَى كَلِمَةِ "عُسلُوج" فَلا يَعرِفُونَ أنَّهَا تَعنِي "غُصْنَ الشَّجَرَةِ الرَّفِيعِ", وَأسألُهُمْ عَنْ مَعنَى كَلِمَةِ "السَّجَنجَل" فَلا يَعرِفُونَ أنَّهَا تَعنِي "المِرآة". بَلْ كُنتُ أسألُهُمْ عَنْ مَعَانِي بَعضِ الكَلِمَاتِ المَوجُودَةِ فِي القُرآنِ الكَرِيمِ وَالحَدِيثِ النَّبَوِيِّ, فَأقُولُ لَهُم: مَا مَعنَى قَولِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ)؟ فَلا يَعرِفُونَ أنَّ الغَاسِقَ هُوَ اللَّيلُ, وَوَقَبَ أي أقبَلَ بِظَلامِهِ!! وَأسألُهُمْ عَنْ قَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أفضَلُ الحَجِّ العَجُّ وَالثَّجُّ». فَلا يَعرِفُونَ أنَّ "العَجَّ" هُوَ رَفعُ الصَّوتِ بِالتَّلبِيَةِ, وَ"الثَّجَّ" هُوَ إِسَالَةُ دَمِ الهَدْيِ!! وَأسألُهُمْ عَنْ قَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا شِيكَ فَلا انتَقَشَ». فَلا يَعرِفُونَ أنَّ "شِيكَ" فِعْلُ مَاضٍ مَبنِيٌّ لِلمَجْهُولِ يَعنِي أصَابَتهُ شَوكَةٌ, وَ"انتَقَشَ" فِعْلٌ مَاضٍ يَعنِي خُرُوجَ الشَّوكَةِ مِنهُ, وَالعِبَارَةُ فِي سِيَاقِ الحَدِيثِ تَحمِلُ مَعنَى الدُّعَاءِ عَلَى عَبدِ الدِّينَارِ وَعَبدِ الدَّرْهَمِ إِذَا وَقَعَ فِي مُصِيبَةٍ فَلا رَدَّهُ اللهُ. وَكُنتُ أُدَاعِبُ الدَّارِسِينَ فَأقُولُ لَهُمْ: مِنْ مِنكُمْ يَستَطِيعُ أنْ يَشرَحَ هَذَينِ البَيتَينِ مِنَ الشِّعْرِ؟ ..
وَمُدَعْشَـرٍ بِالقَعطَلَينِ تَحَشْرَمَـتْ ... شُرَّافَتَـاهُ فَخَــرَّ كَالخُربُعصُـلِ
وَتَفَشْخَلَ الفِشحَاطُ في شَحْطِ الحِفَا ... بِرُبَاتِكَاهُ في رَوكَفِ العَلقَبُوطِ المُنفِلِ
وَمَا إِنْ يَستَمِعُوا إِلَى هَذَينِ البَيتَينِ حَتَّى يُطلِقُوا لِعُقُولِهِمُ العَنَانَ يَتَخَيَّلُونَ مَعَانِيَ لا وُجُودَ لَهَا فِي هَذَينِ البَيتَينِ؛ لأنَّ النَّاظِمَ رَتَّبَ الحُرُوفَ لِتُشَكِّلَ كَلِمَاتٍ لا مَعنَى لَهُ سوى إِيهَامِ السَّامِعِ أنَّ هَذَا الشِّعْرَ يُحَاكِي الشِّعْرَ الجَاهِلِيَّ فِي ألفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ, وَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ كَلامُ لَغْوٍ لا مَعنَى لَهُ!!
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.