المكتب الإعــلامي
هولندا
التاريخ الهجري | 24 من شـعبان 1429هـ | رقم الإصدار: |
التاريخ الميلادي | الإثنين, 25 آب/أغسطس 2008 م |
رسالة إلى الدكتور أنطونيو ألونصو حول ماهية حزب التحرير وخطابه
الدكتور أنطونيو ألونصو: تحية طيبة
وبعد، فقد قرأت بحثك "تحليل خطاب حزب التحرير" المنشور في مجلة "أثينا أنتيلجانس جورنال"(1)، فوجدته بحثا قيّما حوى محاولة جادة لبيان واقع حزب التحرير انطلاقا من مصادره. ومع ذلك، فقد تضمّن البحث جملة من النقاط التي تحتاج إلى إعادة نظر ومزيد تدقيق. وسأركّز في رسالتي هذه على نقطتين: ماهية الحزب وخطابه.
فمن حيث الماهية، فقد توصلت إلى نتيجة مفادها أنّ الحزب "حركة اجتماعية ثورية" وليس بحزب سياسي. قلت: "وبالرغم من أن حزب التحرير يصر على تأكيد أنه حزب سياسي، إلا أنه بالإمكان اعتباره حركة اجتماعية". وقلت: "بإمكاننا التأكيد أن حزب التحرير حركة اجتماعية ثورية".(2)
وأما من حيث الخطاب، فرغم تصريحك بأن الحزب ليس حزبا إرهابيا ولا يعتمد العنف، إلا أنك أكدت أيضا على أن خطاب الحزب يشجع على العنف. وحاصل استنتاجك أنه يمكن اعتبار حزب التحرير منظمة داخل هامش الشرعية، إلا أنها تشجع الأفراد الذين هم من مجوعات منظمة أخرى على القيام بعمليات إرهابية؛ لأنها تقدّم كل الدعم الفكري والمبررات التي قد تدفع ببعض الأفراد إلى الإرهاب.(3)
وسأناقش ما توصلت إليه واستنتجته من خلال النقاط التالية:
1. هل حزب التحرير حركة اجتماعية ثورية أم حزب سياسي؟
عرّفت الحركة الاجتماعية بتعريفات كثيرة منها:
تعريف "مشاونيس Macionis " بأنها: "نشاط منظم يشجع على التغيير أو يرفضه [لا يشجع عليه]".(4)
وتعريف "غيسفيلد Gusfield" بأنها: "نشاطات ومعتقدات اجتماعية مشتركة يراد من خلالها تغيير بعض ملامح النظام العام".(5)
ووفق تعريفك المقتبس من "جيدنس Giddens" فإنّ الحركة الاجتماعية هي "سعي جماعي للحصول على مصلحة عامة أو لتحقيق غاية عامة عبر عمل جماعي يجري خارج حدود المؤسسات القائمة".(6)
وعليه، فإن حزب التحرير في نظرك، ووفق هذه التعاريف، حركة اجتماعية أي جماعة تقوم بنشاط منظم للتغيير. وبما أن الحزب ينشد التغيير الجذري الكلي، فهو إذن حركة اجتماعية ثورية. وحسب "مشاونيس Macionis " فإن "الحركات الاجتماعية الثورية هي أكثر الحركات تطرفا؛ لأنها تسعى إلى تغيير المجتمع بأكمله تغييرا جذريا".(7)
وأما الحزب السياسي، فقد عرّف هو الآخر بتعريفات كثيرة منها:
تعريف " روبرت هاكسهورنRobert Huckshorn " بأنه: "مجموعة مستقلة من الأفراد تسعى إلى تقديم مرشحين وكسب الانتخابات من أجل السيطرة على القوة الحكومية وذلك بالسيطرة على المكاتب العامة وتنظيم الحكومة".(8)
وتعريف "الموسوعة الأمريكية" بأن الأحزاب السياسية هي: "منظمات اجتماعية متميّزة هدفها الأساسي وضع أعضائها المنتخبين في مكاتب الحكومة".(9)
ووفق تعريفك فإن "الحزب السياسي هو فقط شكل من أشكال التعبير عن النشاط الجمعي للاعبين السياسيين". ويكمن الفرق الأساسي عندك بين الحزب السياسي وأي تكتل جماعي يمارس العمل السياسي في القدرة على الترشح للانتخابات والحصول على مقاعد في الحكومة لتمثيل مجموع المواطنين.(10)
ولنناقش الآن هذا المفاهيم:
1. غموض مفهوم الحركة الاجتماعية
يعتبر مفهوم "الحركة الاجتماعية" من معضلات علم الاجتماع؛ إذ تعددت تعاريفه وتباينت حدوده وضوابطه. ويذكر "جون ويلسون Wilson" في هذا السياق أن المفهوم قد اتسع أحيانا ليشمل روابط الأخوة، والمجموعات الشبابية، والأحزاب السياسية، والنحل الدينية وغير ذلك.(11) وقد عبّر عن هذا "بول بيرن Paul Byrne" بقوله: "لقد اعتمد هذا المصطلح في السنوات الثلاثين الأخيرة بكيفية عشوائية حتى طبّق على كلّ شيء".(12) وبناء عليه، فمهما زعمنا الدقة في تعريف الحركة الاجتماعية وانطباقه على واقع كيان ما، فسنجد من ينقض نظرتنا ويهدم رؤيتنا.
ومثال ذلك، فأنت وصفت حزب التحرير بأنه "حركة اجتماعية ثورية"، وركّزت في وصفك على ثلاثة عناصر هي: السعي إلى التغيير، والعمل خارج النظام، وإرادة التغيير الكلي. ولكنك لم تعر موضوع التغيير اهتماما، وهل التغيير الذي ينشده الحزب يتعلّق بالمجال السياسي أم الثقافي؟ وبعبارة أخرى، فمفهوم الحركة الاجتماعية من المفاهيم العامة التي تحتاج إلى تمييز ماهيتها من خلال موضوع حركتها. ومن هنا، فقد قسّم علماء الاجتماع الحركات وفق موضوع حركتها ومجال اهتمامها وعملها إلى حركات اجتماعية - ثقافية (Socio-cultural movements) كالنحل الدينية وحركات اجتماعية - سياسية (Socio-political movements). والفرق بينهما - كما هو عند (Hans Haferkamp and Neil J. Smelser) - هو أنّ الحركات الاجتماعية - الثقافية لا تسعى إلى جعل معتقداتها وأحكامها العملية محل إلزام لكل الكيان السياسي الذي يجمع الناس، فإن سعت إلى ذلك فهي حركات اجتماعية - سياسية كالحركات الإسلامية المعاصرة.(13) ومن المعلوم أنّ حزب التحرير يسعى إلى بناء دولة ووضع ما تبناه موضع التنفيذ في المجتمع. وبناء عليه، فلو وصفت حزب التحرير بالحركة الاجتماعية - السياسية لكان ذلك أدقّ من مجرد وصفه بالحركة الاجتماعية.
2. الفرق بين الحركة الاجتماعية والحزب السياسي
الملاحظ في تعريفك للحركة الاجتماعية تركيزك على عنصر العمل خارج النظام. فالحركة الاجتماعية وفق تعريفك هي "سعي جماعي للحصول على مصلحة عامة أو لتحقيق غاية عامة عبر عمل جماعي يجري خارج حدود المؤسسات القائمة".
والملاحظ أيضا في تعريفك للحزب السياسي تركيزك على عنصر العمل داخل النظام. ومن هنا فأنت لا تعتبر حزب التحرير حزبا سياسيا لأنه لا يشارك في النظام السياسي، باستثناء لبنان كما ذكرت.(14)
وهكذا، فأنت ترى أنّ الفرق الجوهري الفاصل بين الحركة الاجتماعية والحزب السياسي هو العلاقة بالنظام، فإن كانت المنظمة تعمل خارج النظام فهي حركة اجتماعية، وإن كانت تعمل داخل النظام فهي حزب سياسي. وأما بقية العناصر التي ذكرتها كخصائص مميزة للحركة الاجتماعية، مثل التنظيم والهيكلية المؤسساتية والتماسك الداخلي وغير ذلك(15)، فهي عندك ليست بفوارق جوهرية. وسأناقش هذا الرأي من وجهين:
الوجه الأول، أنّ الحركة الاجتماعية لها خصائص تميّزها عن الأحزاب السياسية، وهذه الخصائص لا بدّ من توفرها في كيان ما حتى يصدق عليه وصف الحركة الاجتماعية، فإن تخلفت بعض الخصائص وانعدمت في هذا الكيان، كان من الخطأ وصفه بالحركة الاجتماعية رغم عدم انطباق قيود الحد عليه. ومثال ذلك، فإن ما يميّز الحزب السياسي عن الحركة الاجتماعية دقة التنظيم، بل ذهب "بول بيرن Paul Byrne " إلى أنّ عدم التنظيم من خصائص الحركات الاجتماعية، وأنه من الصعب تحديد الحركة الاجتماعية وفق معيار التنظيم والتكتيك والأيديولوجية. وأرجع "بيرن" صعوبة تحديد ملامح الحركة الاجتماعية إلى غموض طبيعتها بخلاف الأحزاب(16)، مما يجعلنا نسأل: ما مدى دقة العناصر التي حددتها لضبط ماهية الحركة الاجتماعية، وبناء عليه ما مدى انطباق عناصرك على حزب التحرير الذي يشهد له ليس فقط بالتنظيم بل بدقته العالية؟(17) ومثال ذلك أيضا، فإن الحزب السياسي يتميّز عن الحركة الاجتماعية بسعيه إلى وضع مبدئه وآرائه موضع التطبيق في المجتمع من خلال السيطرة على أجهزة الدولة، وأما الحركة الاجتماعية فهي وإن سعت إلى إقناع الجميع بصحة قيمها إلا أنها لا تسعى إلى ذلك من خلال السيطرة على الحكم.(18) وبالنسبة لحزب التحرير فهو يسعى الآن إلى تسلم السلطة ليضع مبدأه موضع التنفيذ في المجتمع والدولة والحياة، ومن هنا فليس الحزب بحركة اجتماعية.
الوجه الثاني، أنّك في تفريقك بين الحزب السياسي وأي تكتل جماعي يمارس العمل السياسي اشترطت القدرة على الترشح للانتخابات والحصول على مقاعد في الحكومة لتمثيل مجموع المواطنين، بل قلت إنّ هذا هو الفرق الجوهري.(19) ولكن، هل يصلح هذا الشرط ليكون الفرق الجوهري بين كيانين رغم عدم دقته وغموضه. فما معنى القدرة على الترشّح للانتخابات، وهل يستلزم وجود القدرة وجوب ممارستها؟ فحزب التحرير عنده القدرة على ذلك، ولكن لا يمارسها، فهل يصدق عليه إذن وصف الحزب السياسي وفق مفهومك أم يجب عليه أن يمارسها؟ فإن قلنا بلزوم الممارسة، فإن حزب التحرير لا يرفض فكرة الانتخابات، وسيسعى بعد إقامة الخلافة "للترشح للانتخابات والحصول على مقاعد في مجلس الأمة لتمثيل مجموع المواطنين وليمارس التأثير على الحكام (الحكومة) ويعمل على أن يكون الحكام ممن يحملون آراءه"، فهل يكون إذن قد مارس هذه القدرة وصدق عليه وصف الحزب، أم لا بدّ له من ممارسة هذه القدرة ضمن الواقع الحالي؟
فإن قلت بلزوم ممارسة هذه القدرة ضمن الواقع الحالي، قلت: وهل يسمح الواقع الحالي بممارسة هذه القدرة، بل هل يمكن الحديث عن قدرة ممارسة ضمن الواقع الحالي في البلدان الإسلامية؟ فلا يخفى عليك كمفكر غربي أنّ وجود الأحزاب وممارستها لوظائفها - بالطبع وفق المنظومة الفكرية الغربية - مرتبط بوجود الديمقراطية. فوفق "ليبسات Lipset" فإن وجود الأحزاب هو عبارة عن وجود للعناصر الحيوية التي بدونها لا توجد الديمقراطية الحديثة.(20) ووفق "ستوكس Stokes" فإنّ الأحزاب السياسية لا تنفصل عن الديمقراطية. ويؤكد هذا "ميلر Muller" بقوله: "لقد أصبحت فكرة لزوم الأحزاب السياسية لتطبيق الديمقراطية في الدولة الحديثة هي الفكرة المهيمنة".(21) وعليه، فما قيمة هذا البحث لتحديد ماهية حزب التحرير كحزب سياسي أو حركة اجتماعية وفق المعايير الغربية، في غياب الإطار السياسي الذي توجد فيه الأحزاب السياسية وفق المعايير الغربية أيضا؟ ولتأكيد هذا المعنى، أذكرك بقولك: "باستثناء حالة لبنان"، فقد اعتبرت الحزب في لبنان مشاركا في النظام السياسي، فيلزم إذن أن يكون حزبا سياسيا وفق مفهومك، كما يلزم أن تكون المشكلة في طبيعة الأنظمة القائمة، وليس في طبيعة حزب التحرير.
3. ماهية حزب التحرير
تشهد الأحزاب السياسية في الغرب تطورا كبيرا يتعلّق بطبيعتها ووظيفتها. وقد أطلق بعض المفكرين على هذه الحالة لفظ الانحدار (Decline)، بينما رفض بعض آخر لفظ الانحدار وسمى التطور بالتحول (Transition). ومهما كان اللفظ فهو يعبّر عن حالة فقدان هذه الأحزاب السياسية لقيمتها وأهميتها في المجتمع مقارنة بوقت مضى. وقد ذكر المفكرون الغربيون عدة أسباب لهذا الانحدار أو التحول، فذهب "كوليمان Coleman John J." إلى أنّ سبب انحدار الأحزاب السياسية في أمريكا هو غياب الفروق الأيديولوجية بين الديمقراطيين والجمهوريين(22)، وذهب "كيرشهايمر Kirchheimer" إلى أن سبب التحول هو تخلي الأحزاب عن طابعها الأيديولوجي وتبنيها لمبدأ "Catch-all"(23) وهو مبدأ التلون والنفعية القائم على إسماع الناخب ما يحبّ أن يسمعه. بينما ذهب غيرهم في نظرية أعمّ إلى أن التحول في طبيعة الأحزاب السياسية ووظيفتها في المجتمع أدى بها إلى الانحدار وفقدان قيمتها؛ ذلك أن الأحزاب السياسية المعاصرة تهتمّ بالانتخابات أكثر من اهتمامها بقضايا المجتمع.(24) بمعنى أنّ الأحزاب السياسية في الغرب قد فقدت طبيعتها الحركية، أعني سعيها لتغيير المجتمع وفق مبدأ أو الحفاظ عليه وفق هذا المبدأ. وبناء عليه، فقد مال بعض المفكرين الغربيين الواعين على لزوم الروح الحركية للحزب السياسي، إلى لزوم التنسيق بين الحزب السياسي والحركة الاجتماعية لتحقيق التكامل الوظيفي، بل ذهب بعضهم إلى اعتماد مفهوم الحزب الحركي " Movement Party" كوصف لكيان يجمع بين كيانين: يتميّز أحدهما بالدقة في التنظيم والقدرة على التأثير، ويتميّز الثاني بالقدرة على تحريك المجتمع والسعي المتواصل إلى التغيير.(25)
ذكرت هذا لأقول: إن الحركة بمعنى الفاعلية في المجتمع تغييرا له أو حفاظا عليه من منطلق مبدئي هي جوهر الأحزاب السياسية، فإذا فقدت الأحزاب السياسية جوهرها، فإنها تفقد تبعا لذلك ماهيتها، فتصبح مسخا لا هوية له، ولا رسالة له، ولا وظيفة له سوى التلاعب بالناس من أجل مصلحة فئة الصفوة، كحال أغلب الأحزاب السياسية الغربية القائمة الآن.
وقد كان حزب التحرير، منذ نشأته، واعيا على هذا المعنى، لذلك قدّم نفسه كحزب سياسي مبدئي يعمل في الأمة راعيا لشؤونها مهتما بمصالحها، وظيفته قبل الخلافة تغيير واقع المسلمين بتحقيق نهضة الأمة وبناء المجتمع والدولة عبر الصراع الفكري والكفاح السياسي، وأما وظيفته بعد قيام الخلافة فالمحافظة على ما تحقّق عبر تطبيق ما تبناه إن كان في الحكم، أو عبر العمل الفكري والسياسي في الأمة وعبر محاسبة الحكام إن لم يكن في الحكم. علاوة على هذا، فإنّ من أسمى الوظائف التي حددها الحزب لنفسه، وظيفة القوامة على المجتمع، وهي تعني الحفاظ على جذوة المبدأ متقدة في عقول المسلمين ونفوسهم لتبقى الأمة الإسلامية أمة حيّة مندفعة في هذا الكون من أجل خير البشرية. فهذا هو حزب التحرير، وهذا هو النموذج الحزبي المتميّز الذي يقدّمه للناس، وهو النموذج الذي أصبح اليوم مطلب كثير من الساسة والمفكرين بغض النظر عن انتمائهم المبدئي.
2. هل يحرّض خطاب حزب التحرير على العنف؟
بالنسبة لمسألة العنف والإرهاب، فحاصل كلامك أنّ الحزب لا يصنف كحركة إرهابية، ولكن خطابه يشجع على العنف ويقدّم مبررات لذلك.(26) وسأناقش هذا الرأي من خلال بيان مواطن الخلل في تحليلك:
1. عدم الدّقة في فهم العقلية الإسلامية
قلت: "استعمال العنف يبقى مستبعدا لأسباب تكتيكية ولأنه ليس مناسبا الآن، وليس لقناعة ذاتية عميقة بأن العنف غير شرعي أو أنه وسيلة أخيرة، ولكن لأن طريقة الرسول لم تكن كذلك ولأن استخدام العنف ترك لوقت لاحق ضد الشعوب التي لا تقبل الإسلام طواعية فيقع التحول من الدعوة إلى الجهاد".(27) ولكن، ما معنى التكتيك، وما معنى الشرعية، وما معنى القناعة الذاتية؟ فهل الشرعية عند المسلم "الأصولي" الذي تتحدث عنه هي الشرعية التي عندك؟ وهل مصدر القناعة عند حزب التحرير هي كمصدر القناعة عندك؟
لقد كان من الواجب فهم مصدر الالتزام عند المسلم قبل إطلاق الأحكام على ما يعتبره تكتيكا مرحليا، وما يعتبره طريقة ملزمة واجبة الإتباع. فمصدر الالتزام عند حزب التحرير هو الشرع الإسلامي، وليس الشرعية القانونية الوضعية التي تتبناها. ومن الشرع الإسلامي سنة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهي ما اعتمده الحزب في تحديد منهجية عمله. وعليه، فإن التزام الحزب بعدم استعمال "العنف" هو نتيجة قناعة ذاتية عميقة؛ لأنّ الشرع الإسلامي الذي يبني الحزب عليه أحكامه وأعماله يحرّم ذلك. وأما المثل الذي سقته لدعم استنتاجك، وهو قول عضو حزب التحرير "يعقوب تاوسن Ya'qub Towsen": "لو استعمل النبي منهج [العنف] لاستعملناه"(28)، فقد أسأت تأويله؛ لأنه يبرز قناعة الحزب بمنهجه وأنه شرع رباني واجب الإتباع، ولا يبرز أنه تكتيك مرحلي. فالمراد من القول، أنّ الحزب يتبع الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو مصدر الشرعية، ولو كان "العنف" مشروعا وفق الشرع الإسلامي لعملنا به، فالمراد إذن إبراز مصدر شرعية عمل الحزب والتأكيد على أنه قناعة فكرية له.
والظاهر من كلامك، أنك تقيس سلوك الحزب وأفكاره بمقياس القاعدة الغربية القائلة بأن "الغاية تبرر الوسيلة"، وأن السلوك يبنى على المنفعة التي يحددها العقل البشري. لذلك، رأيت أن أنبه على فساد هذا المقياس، وأنّ حزب التحرير كحزب يقوم على المبدأ الإسلامي، يرفض القاعدة الميكيافلية، ويعتبر المنفعة فيما حدده الشرع؛ لذلك فقناعة الحزب أن عدم استعمال "العنف" في منهجه العملي لإقامة الخلافة قناعة مبنية على التزامه بالشرع الإسلامي وفلسفته في الحياة، وليست مبنية على تكتيك.
2. عدم مراعاة السياق
يقول الأنثروبولوجي الشهير "مالينوفسكي Bronislaw Malinowski": "إن الاعتقاد بأن المعنى محصور في الكلام مفهوم خاطئ؛ لأن الكلام والسياق عنصران متلازمان يكمل بعضهم بعضا ولا انفصام بينهما". فالكلام إذا أخرج عن سياقه أدى إلى فهم معان غير مقصودة منه، وكما قيل: "بدون سياق، فلك أن تقول أي شيء عن أي شيء" (Without context, you can say anything about anything).
ولنأخذ مثلا مسألة العمليات الاستشهادية كنموذج من نماذج عدم مراعاة السياق. فقد ذكرت أن الحزب يجيز مثل هذه العمليات، ثم استنتجت ما يلي: "هذا النص الذي نشر في الوعي، مجلة حزب التحرير، لا يترك مجالا للشك حول رأي الحزب حول قتل أفراد من أجل الحصول على مكاسب سياسية، على الرغم من أن هذه ليست طريقة الرسول التي يذكرها المؤسس في كتاباته".(29) فلو وضعت الكلام في سياقه، لما استغربت من كون المؤسس (الشيخ النبهاني رحمه الله) يعتبر "العنف" ليس من طريقة الرسول (صلى الله عليه وسلم). فالكلام المتعلق بالعمليات الاستشهادية، ورد في سياق الحرب الدائرة بين المسلمين والمحتلين لبلادهم، ولا علاقة له بغاية الحزب أي بإقامة الخلافة. فلو فرضنا مثلا، أن أسبانيا تعرضت لهجوم، واحتلت جهة ما أرضها، فكيف سيكون موقف الحزب الاشتراكي مثلا؟ فلو قبل بالمحتل لكان خائنا. أما لو دعا إلى مقاومة المحتل، فهل ستغير هذه الدعوة من طبيعته كحزب سياسي فيصبح حزبا عسكريا أو حزبا إرهابيا أو حزبا يحرّض على العنف؟
وعدم الدقة في كلامك، ليست فقط في عدم مراعاة سياق كلام الحزب، بل في عدم مراعاة سياق استعمال العنف ككل من حيث مشروعيته وعدم مشروعيته. لذلك، فأنت تعتبر مقاومة المسلمين للاحتلال من باب العنف غير المشروع، وعليه فقد اعتبرت كل من يدعو إلى ذلك يشجع على العنف. وهذا مما لا يليق بالمفكرين من أمثالك؛ إذ إن مقاومة المحتل حق مشروع للكل، فلا توصف بأنها عنف بالمعنى السلبي للكلمة.
والحاصل، فإن كل الأمثلة التي أتيت بها، تتعلق بدعوة حزب التحرير لمقاومة المحتل الذي احتل أرضنا ودمّر بلدنا وقتّل أهلنا، وقد كان من الواجب عليك مراعاة هذا السياق الذي ورد فيه كلام الحزب.
3. عدم الموضوعية في تحديد العمل السياسي
إنّ مجرد عرض رؤية عسكرية لمعالجة قضية دولية ما، لا يخرج الحزب السياسي عن طبيعته السياسية. فالحزب الجمهوري مثلا تبنى فكرة الحرب على العراق وإسقاط الرئيس العراقي كمعالجة لمسألة العراق وحفظ مصالح أمريكا، فهل يعتبر تبنيه للحل العسكري دعوة إرهابية تخرجه عن وصفه السياسي؟ وهل نقول عنه إنه حركة سياسية ولكن خطابه قد يشجع على العنف لذلك وجب منعه؟ وكذلك حزب التحرير، فهو يقدم رؤية سياسية لمعالجة قضية، فيرى أن الحل لقضية فلسطين والعراق وأفغانستان هو محاربة الكيان المحتل، فكيف تتبنى الأحزاب السياسية الغربية الحل العسكري ولا تخرج عن وصفها السياسي، بينما تبني حزب التحرير للحل نفسه يخرجه عن وصفه وماهيته كحزب سياسي؟
بل لنذهب إلى أبعد من ذلك، فأقول: لماذا يعتبر الغربي الذي يفكر في سيادة العالم مفكرا استراتجيا وسياسيا عبقريا، بينما يعتبر المسلم الذي يفكر في الأمر ذاته، إرهابيا يحضّ على العنف؟ ولماذا يعتبر الغربي الذي يجيز قتل مدنيين لكسب الحرب مفكرا سياسيا (30)، ويعتبر المسلم الذي يجيز الاستشهاد في سبيل الدفاع عن أرضه إرهابيا يحضّ على العنف؟
فحينما يقول "وورن كريستوفر Warren Christopher " (وزير الخارجية الأمريكي في عهد كلينتون): "أمريكا لا بد أن تقود... إنّ القيادة الأمريكية [للعالم] هي قاعدتنا الأولى والدرس الأساسي لهذا القرن؛ لأنه بكل بساطة إذا لم نقد نحن فلن يفعل ذلك أحد"(31)، حينما يقول هذا يعتبر مفكرا سياسيا، بينما حينما يقول حزب التحرير بسيادة العالم بمبدأ الإسلام، يعتبر حزبا شموليا (توتاليتاريا) يحضّ على الإرهاب!
وحينما يقوم جمع من الساسة من مجموعة المحافظين الجدد (American neoconservative think tank) (الذين حكموا العالم فيما بعد، ومنهم "فولفوفيتز Paul Wolfowitz" و"رامسفيلد Donald Rumsfeld")، بكتابة رسالة مفتوحة إلى الرئيس كلينتون (بتاريخ 16\01\1998م) يطلبون فيها تنحية الرئيس العراقي (صدام حسين) ولو باستعمال القوة العسكرية، حينما يفعل هؤلاء مثل هذا يعتبرون من عباقرة الساسة، ولا تعتبر رسالتهم التي تحضّ على الحرب دعوة إرهابية، بل هي من الأعمال السياسية العظيمة التي أنتجها فكر استراتيجي عبقري. فلم نجد من مفكري الغرب من نزع عنهم وصف الساسة. بينما حينما يكتب حزب التحرير يحضّ الجيش الإسلامي على الدفاع عن أرضه وتنحية العملاء والخونة، يعتبر خطابه يحرّض على العنف، ويعتبر عند جمع من مفكري الغرب منظمة إرهابية!
فأين الموضوعية في تمييز العمل السياسي من غيره، وما هي المقاييس المعتمدة في ذلك عند مفكري الغرب؟
3. خاتمة
حاولت في هذه الورقات أن أثير جملة من النقاط المتعلقة بحزب التحرير وماهيته وخطابه كما وردت في بحثك، والمتعلقة أيضا بقواعد ومقاييس التفكير الغربي المعتمدة في فهم حزب التحرير بخاصة، والعقلية الإسلامية بعامة. ولا ريب أن هناك جملة أخرى من النقاط لم يقع التعرض إليها، إلا أنني لم أرد الاستيعاب والتطرق لكل نقطة. لذا أعتبر ما ورد في هذه الورقات كافيا، وآمل في أن تجد لديك القبول فتعيد النظر فيما ذكرت.
وتقبل تحياتي
أوكاي بالا
عضو ممثل لحزب التحرير - هولندا
25-08-2008م
_____________
(1) Athena Intelligence Journal -Vol. 3, No 2, (2008), pp. 87-137
(2) ينظر ص 90 من المجلة
(3) ينظر ص 124
(4) ينظر:
Macionis John (2003): Sociology, New Jersey Prentice Hall, p. 610
(5) ينظر:
Robert H. Lauer (1976): Social Movements and Social Change, Southern Illinois University Press, p. xiii
(6) ينظر ص 90
(7) ينظر:
Macionis John (2003): Sociology, p. 611
(8) ينظر:
Robert Huckshorn (1984): Political Parties in America, Monterey, California: Brooks/Cole, p. 10
(9) ينظر: Encyclopedia Americana
http://ap.grolier.com/article?assetid=0317380-00&templatename=/article/article.html
(10) ينظر ص 89
(11) ينظر:
Wilson John (1973), Introduction to Social Movements, New York, Basic Books, p. 13
(12) ينظر:
Paul Byrne (1997), Social Movements in Britain, Routledge, London, p. 10
(13) ينظر:
Hans Haferkamp and Neil J. Smelser (1992), Social Change and Modernity, University of California Press, p. 43
(14)ينظر ص 89
(15) ينظر ص 90
(16) ينظر:
Paul Byrne (1997), Social Movements in Britain, p. 11-12
(17) ينظر مثلا:
Terrorism Monitor, Volume IV, Issue 24, December 14, 2006, Hizb-ut-Tahrir's Growing Appeal in the Arab World, By James Brandon, p. 7
(18) ينظر:
Paul Byrne (1997), Social Movements in Britain, p. 13
(19) ينظر ص 89
(20) ينظر:
Lipset, Seymour Martin (2000), The Indispensability of Political Parties, Journal of Democracy, Vol. 11, No. 1, pg. 48-55
(21) ينظر:
The Role Of The Political Party In The United States: Is The Party Becoming Obsolete? By Cenap Cakmak, The Journal of Turkish Weekly, 30 August 2005
(22) ينظر المصدر السابق
(23) ينظر:
Kirchheimer, Otto: "The Transformation of Western European Party Systems" in La Palombara, J.G.; Weiner, M.: Political Parties and Political Development. Princeton Univ. Press, 1966, p. 177-200
(24) ينظر:
Gunther, Richard and Larry Diamond (2001),"Types and Functions of Parties" in Political Parties and Democracy, eds. Larry Diamond and Richard Gunther. Baltimore: The Johns Hopkins University Press, p. 7-8
(25) ينظر المصدر السابق، ص 9-30 وينظر أيضا:
Wainwright, Hilary (1994), Arguments for a New Left: Answering the Free Market Right, Cambridge, MA: Blackwell. P. 212-213
(26) ينظر ص 123- 124
(27) ينظر ص 113
(28) ينظر ص 113
(29) ينظر ص 115- 116
(30) ينظر مثلا:
"Just War Theory" vs. American Self-Defense, Yaron Brook and Alex Epstein, The Objective Standard, Vol. 1, No. 1. 2006; http://www.theobjectivestandard.com/issues/2006-spring/just-war-theory.asp
(31) ينظر:
Warren Christopher, "America's Leadership, America's Opportunity," Foreign Policy 98 (Spring 1995), p. 8
المكتب الإعلامي لحزب التحرير هولندا |
عنوان المراسلة و عنوان الزيارة تلفون: 0031 (0) 611860521 www.hizb-ut-tahrir.nl |
E-Mail: okay.pala@hizb-ut-tahrir.nl |