Logo
طباعة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

"حق تقرير المصير" وفق إرادة المستعمرين!

 

حلَّ نفوذ الغرب الكافر المستعمر في بلاد المسلمين، فجزأ البلاد، ومزقها مِزَقاً عدة وجعلها مقطَّعةَ الأوصال، مهشمة الجوانب، قطعةً هنا وأخرى هناك؛ فما حدث في العراق من تجزئة وفيدرالية عرقية، وما حدث في باكستان من فصل الشرقية عن الغربية، وما تم من اقتطاع تيمور الشرقية من إندونيسيا، وما تم في السودان من فصل الجنوب عن شماله، حتى أصبحت بلاد المسلمين المجزأة سائرةً على طريق المزيد من التجزئة والشرذمة.

 

لقد أضحت بلادنا الإسلامية مسرحاً لصراع الثروة والنفوذ بين أمريكا وأوروبا، ومما يؤسَف له أن تكون أدوات هذا الصراع بعض أبناء الأمة، سواء في الحكومة أو في حركات التمرد كما هو الحاصل اليوم في السودان، بينما الخاسر الوحيد في هذا الصراع هم الأبرياء المغلوبون على أمرهم.

 

وقد استخدم الغرب الكافر من أجل تحقيق أهدافه التقسيمية في السودان أساليب ووسائل خبيثة عديدة ووضع الخطط تلو الأخرى، فأثار النعرات العرقية بل والجغرافية والعشائرية وروج لفكرة "حق تقرير المصير" التي أصبحت التعبير المخفف عن الانفصال والانقسام بلغة السياسة الدولية.

 

لقد بدأ مسلسل التقسيم منذ احتلال بريطانيا لمصر عام 1882 حيث أخذت تعمل على تقسيمها، جريا على خطتها التي رسمتها للبلاد الإسلامية، فقامت كل من أمريكا وبريطانيا بتهيئة الرأي العام لقبول فكرة الانفصال وذلك بعقد اتفاقيةٍ عام 1953 نصت على ما أطلق عليه "حق تقرير المصير" للشعب السوداني وإجراء استفتاء شعبي برقابة دولية، فكانت تلك الاتفاقية تمهيدا للانفصال عن مصر وإعلان الجمهورية السودانية عام 1956.

 

ولم يقف دهاء وخبث بريطانيا إلى هذا الحد بل تعدى الأمر إلى العمل على تقسيم السودان إلى دولتين، الأولى في الشمال والثانية في الجنوب، وبدأت بالسعي لتنفيذ هذه الخطة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، أي في عام 1922 وسلكت سياسة عزل الشمال عن الجنوب فوضعت قيودا صارمة على انتشار الإسلام في مناطق الجنوب (الاستوائية، بحر الغزال وأعالي النيل) ومنعت انتشار كل ما يمت للشماليين بصلة من عادات وتقاليد، وجعلت الجنوبيين ينظرون إليهم بعين الريبة والشك، وأصدرت بريطانيا عام 1930 قرارا ينص على اعتبار الجنوبيين أناسا يختلفون عن الشماليين، ودفعت بالمبشرين والبعثات التبشيرية والإرساليات بهدف دعم المتمردين والتجسس وإثارة الفتنة وبث روح التمرد والعصيان ونشر الأفكار المعادية والمغرضة ضد المسلمين، هذا وقد اتخذت بريطانيا قبل خروجها من السودان الكثير من الإجراءات والتدابير التي من شأنها أن تباعد بين الشماليين والجنوبيين بشكل مباشر وغير مباشر عن طريق عملائها في مستعمراتها المجاورة.

 

ومع تغير النفوذ من يد بريطانيا ليد أمريكا، تبنت هذه الأخيرة فكرة التقسيم ولكن بأساليبها ووسائلها الخاصة بها، فعلى الرغم من اختلاف المصالح الأمريكية عن البريطانية في السودان انطلاقا من مفهوم النفعية الذي يمليه عليهما المبدأ الرأسمالي إلا أن الفكرة الأساسية وهي فصل الجنوب عن الشمال وتقسيم السودان، لم يحصل بينهما خلاف عليها، وهذا الالتقاء بينهما يحصل في بعض القضايا الدولية كما هو الحال في البلاد الإسلامية.

 

ومن أخطر الأساليب التي التقت عليها دول الكفر، أمريكا وبريطانيا، لفصل جنوب السودان عن شماله هي؛ تدويل المسألة، أي خروجها من أيدي أصحابها إلى أيدي الدول الكبرى لحلها وتصفيتها وفق أهوائها ومصالحها، وهذا ما حصل بالنسبة لمسألة جنوب السودان، إذ أصبحت من كثرة الأطراف الدولية المتدخلة فيها وكأنها غير سودانية وبالأحرى غير إسلامية! ففتح جنوب السودان أمام أعمال المبشرين والإرساليات التي بلغت خمسا وثلاثين إرسالية، وأيضا أمام المنظمات التي تتظاهر أنها تعمل بدوافع إنسانية وللمحافظة على ما يسمونه بحقوق الإنسان وتقديم المساعدات المالية لتسويغ وجودها والتخريب تحت هذا الغطاء؛ لأن السودان ليس بحاجة لإعاناتها فهو في حقيقة أمره بلد غني قد حباه الله بثروات طبيعية هائلة، وهو خلاف ما يشاع عنه من أنه من أفقر بلاد العالم!

 

فوُقعت الاتفاقيات بين المتمردين وبين الدولة وظهرت المسألة وكأنها خلاف متأصل بين النصارى الأفارقة في الجنوب والمسلمين العرب في الشمال، فأقروا ما أسموه "إعلان المبادئ" الذي نص على ما أطلقوا عليه "حق تقرير المصير" للجنوبيين لتعود هذه الفكرة للتداول من جديد واعتبار الانفصال أحد الخيارات المفتوحة أمامهم وذلك بعد إجراء استفتاء شعبي عليه.

 

وهذا ما حدث بالفعل، ففي 9/7/2011 تم الإعلان رسمياً عن انفصال الجنوب، وأصبح دولة، فتحقق لبريطانيا وأمريكا ما تصبوان إليه، وأعلنت رئاسة الجمهورية السودانية ومجلس الوزراء رسمياً قبولهما بنتيجة استفتاء تقرير مصير جنوب السودان (المعلومة سلفاً) والتي جاءت بنسبة 98.83% لصالح الانفصال وقيام دويلة الجنوب (حلم الغرب الكافر) وهنأ آنذاك الرئيس الأمريكي أوباما من سماهم شعب جنوب السودان بهذه النتيجة التي خطط لها بذكاء ماكر، ونفذها الحكام والسياسيون بغباء باهر!!

 

وها هي اليوم دولة جنوب السودان على فوهة بركان الحرب الأهلية إذ تشهد منذ أشهر توترات عسكرية وسياسية متواصلة بين شريكي السلطة: الرئيس سلفاكير ميارديت، ونائبه الأول رياك مشار وصلت إلى حد تجدد المواجهات العسكرية خلال الأسابيع الأخيرة، فالصراع الحالي الذي استمر لسنوات طويلة هو في الغالب تنافس بين طرفين هما قبيلتا الدينكا والنوير وهو ما أدى إلى جولات عديدة من المواجهات العسكرية، بما في ذلك الحرب الأهلية التي استمرت خمس سنوات بين عامي 2013 و 2018 وأودت بحياة نحو 400 ألف شخص وانتهت باتفاق سلام هش عام 2018.

 

هذا مصير الدول التي تؤسَّس على الموافقات القبلية أو الإثنية أو المناطقية، وها هو مسلسل تقسيم السودان ما زال مستمرا حتى هذه الساعة وفي خضم الصراع الحالي، إذ لاحت في الأفق مؤشرات على احتمال انفصال إقليم دارفور عن السودان إثر قيام قوات الدعم السريع بإيقاف الصادرات المتجهة إلى مصر من المناطق التي تسيطر عليها من إقليم دارفور، هذا وقد صرح مستشار قائد قوات الدعم السريع، الباشا محمد طبيق إلى حاجة قوات الدعم لتشكيل حكومة في مناطق سيطرتها باعتبارها ضرورة قصوى، وأن هذه الخطوة يجب أن تلقى الترحيب والاعتراف الفوري من المجتمع الدولي للحفاظ على بقاء الدولة السودانية موحدة.

 

هذا بالإضافة إلى أن الأحداث الميدانية المتسارعة في السودان تسير باتجاه واحد، وهو إعادة سيطرة الجيش على معظم المناطق في السودان وترك المنطقة الغربية، دارفور خاصةً، لقوات الدعم السريع، وإذا ما اكتمل هذا التوجه فإن البلاد تتجه للتقسيم الفعلي.

 

ومما يبدو فإن مصلحة أمريكا اقتربت من التسارع لفصل دارفور كما فعلت في جنوب السودان، إذ كانت سابقا تغض الطرف عن الحديث حول حلول سياسية لمشكلة دارفور، لأنها لا تريد انشغالها بملف الجنوب وملف دارفور في آن واحد، فتركت ملف دارفور مشتعلاً إلى حينه. وكانت تتناول فقط الملفات الإنسانية والأمنية وموضوع النازحين دون جدية في حلها، وتحاول في كل مرة تبريد الأجواء المسخّنة من جانب أوروبا، وتطمين المجتمع الدولي بهدوء الأحوال في المنطقة مع علمها التام بسخونة ملف دارفور، فكما هو معلوم فإن الصراع في دارفور أصلاً كان مجرد مشاكل تقليدية بسيطة تحدث عادة بين القبائل، تتعلق بمناطق الزراعة والري والرعي وتجمعات المياه، وكانت هذه المشاكل سرعان ما تجد لها حلاً من خلال زعماء القبائل. ومعلوم أن هذا النوع من المشاكل يعتبر شيئاً عادياً في جميع المناطق القبلية، وهي من نوع الخلافات الطبيعية التي تنشأ في المجتمعات القبلية المتحركة، إلا أن أوروبا ونتيجة انفراد أمريكا بجنوب السودان دون إعطائها - وبخاصة بريطانيا وفرنسا - دوراً فيه، أي في جنوب السودان، أشعلت نار الفتنة في دارفور بين القبائل العربية من جهة وبين القبائل الأفريقية من جهة أخرى، وجميعها من المسلمين. فركزت أوروبا على إثارة مشكلة دارفور عسكرياً وسياسياً وإعلامياً لإحراج أمريكا وخلخلة وضع حكم البشير الموالي لأمريكا آنذاك، حتى لا تهنأ أمريكا بصيدها الثمين في الجنوب، وحتى تجد أوروبا موطئ قدم لها في السودان.

 

وها قد حان موعد الإمساك بالملف، وها هي أمريكا تفعل. وهكذا صار السودان ألعوبة في يد أمريكا تفعل به ما تشاء، وسيكون الحل الأمريكي للصراع الدائر في السودان والحل لدارفور، سيكون بالسيناريوهات ذاتها التي لعبتها أمريكا لفصل الجنوب، وبذلك يتحقق لها ما أرادت من تمزيق السودان وتفتيته ولكن بأيدي أبنائه المشاركين والمنفذين والمتواطئين أو الساكتين!

 

إن الموقف الذي يجب أن يتخذه أهل السودان من هذه المؤامرات والصراعات وإيقاف تساقط أقاليم السودان هو عدم التمادي في الباطل والاستمرار في سياسة الخضوع والقبول بأن نكون أحجار شطرنج يضعنا أعداؤنا في أي خندق يريدون، وأيضا علينا أن لا نعتمد على أمريكا المجرمة في معالجة قضايا البلاد، وأن لا نجعل بلادنا ميدان صراع بين أعداء الأمة فهذا أمر لا يقبله الإسلام، ويجر البلاد إلى مصيبة كبرى؛ من الذل والضعف، والفرقة والتفكك والخراب، وخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين. فالكفار يقتلون النفوس، وينهبون الثروات، ويغتصبون الحقوق ويصولون ويجولون في بلاد المسلمين، لا فرق عندهم بين فلسطين والعراق ولا بين إندونيسيا وأفغانستان والسودان وغيرها من بلاد المسلمين.

 

فمتى تفيق الأمة وتعرف من هم أعداؤها، فتتصرف حيالهم استناداً إلى هذا الفهم، وتعرف أدواتهم فتلفظهم لفظ النواة، وتعمل لعزتها وكرامتها باتخاذها الإسلام وحده طريقها للنهضة والنجاة، وذلك بتحكيم شرع الله واتباع نبيّ الهدى محمد ﷺ في كل أمور حياتها السياسية وغيرها، ما دقّ منها وما جلّ؟ يقول المولى عز وجل: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾، ويقول سبحانه: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾، ففي ذلك الفوز العظيم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، فهل أنتم مستجيبون؟

 

#أزمة_السودان           #SudanCrisis

 

كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

رنا مصطفى

 

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.