- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
القضاء والقدر وحامل الدعوة
فهمٌ راسخ وسيرٌ لا يلين
في زمان كثُر فيه الإحباط، وتراكمت على كاهل الأمة الابتلاءات، وغدت الطريق إلى التغيير محفوفة بالمخاطر والمصاعب، تبرز حاجة حامل الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية لفهم عميق للقضاء والقدر، فهماً يرسخ اليقين، ويمنح الثبات، ويصنع الشخصية التي لا تهزّها العواصف، ولا تحرفها عن هدفها الأهوال.
إنَّ الحديث عن القضاء والقدر ليس ترفاً فكريّاً، ولا نقاشاً فلسفيّاً يُخاض من أجل الجدل، بل هو أصل من أصول العقيدة الإسلامية، له أثر مباشر في سلوك المسلم، لا سيما حامل الدعوة، الذي نذر نفسه لله تعالى ليقيم دينه في الأرض ويعيد سلطان الإسلام المغتصب.
فكل ما يحدث في الكون من حياةٍ وموت، وغنىً وفقر، وصحةٍ ومرض، وزلازل وبراكين، هو قضاء من الله. أما ما اختص به الإنسان من أفعالٍ يملك القيام بها أو الامتناع عنها، فهي من فعله وكسبه، ويحاسب عليها.
وأفعال الإنسان بين دائرتين؛ دائرة فوق قدرته وإرادته، أي لا قدرة له عليها، ودائرة تحت إرادته وقدرته، وإنّ أفعال الإنسان التي تقع تحت قدرته وإرادته، هي من كسبه، ويحاسب عليها... وإنّ القضاء هو ما لا قدرة للإنسان عليه من أمور الحياة والموت والرزق وما شابه.
حين يدرك حامل الدعوة هذا الفهم العميق للقضاء والقدر، فإنه يتحرر من الشعور بالعجز، ويعلم أن التغيير ليس مُحتّماً وقوعه لمجرد أنه قدّر في علم الله، بل هو مرتبط بإرادة التغيير لدى البشر وأفعالهم ضمن المشيئة الإلهية.
لذا، لا يستسلم حامل الدعوة للمصاعب ولا يبرر تقاعسه بالقَدَر، ولا يقول كما يقال: "هذا قدرنا"، بل يعلم أن الله خلقه حرّ الإرادة، مكلَّفاً مأموراً، وأن عليه أن يعمل لإقامة شرعه، وأن يُحاسَب على تقصيره إن قصّر.
فليس صحيحاً ما يقوله البعض من أنّ الإنسان مجبر على أفعاله، فالله جعل له إرادة، وأعطاه العقل، وبيّن له الطريق، وأمره ونهاه، ثم يُحاسبه على فعله. فلو كان مجبراً لما صحّ الحساب.
تاريخ الأمة الإسلامية مليء بالنماذج التي عاشت هذا الفهم، فانطلقت بقوةٍ للعمل لتغيير الواقع، فلم تسيطر عليهم القدرية الغيبية ولم يكن القضاء والقدر حجّةً للتقاعس. فالنبي ﷺ مع علمه بأنه رسول الله المختار، وبأن النصر والتمكين وعد متحقق لا محالة، لم يتواكل، بل تحمّل الأذى، وصبر على البلاء، وربّى أصحابه على السعي والعمل، وخطّط، وهاجر، وأقام الدولة في المدينة.
ولمّا واجه الصحابة مصائب عظيمة كأحد أو حنين أو مقتل القادة، لم يقولوا: "هذا قدر الله فلنترك السعي"، بل كانوا يعلمون أن النتائج بيد الله، وأن المطلوب منهم هو السعي والعمل وفق أوامر الله في طاعة مطلقة.
إنّ الإيمان بالقدر يجب أن لا يؤدي إلى التواكل، بل يدفع للعمل، لأنّه يعني أن الله يعلم ما كان وما سيكون، ولكنه لم يُجبر الإنسان على فعله، بل قدّره بعلمه وإحاطته، وترك له حرية الاختيار.
وإن من أخطر ما ابتُليت به الأمة اليوم هو الانحراف في فهم القدر، حتى صار بعض أبنائها يتذرعون به للهروب من المسؤولية، فيقولون: "ما يحدث لنا من ذلّ واحتلال وتبعية هو قدر الله، ولا يمكن تغييره".
وهذا الفهم باطل، ومخالف للكتاب والسنة. فالله لم يأمرنا بالركون بل قال سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾، وقال عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.
ومن ظنّ أن الذلّ والهوان الذي نعيشه اليوم هو قضاء لا يُردّ، فقد كذّب نصوص الوحي، وألغى مسؤولية الإنسان، وجعل الشريعة عبثاً، وحاشا لله أن يأمرنا بإقامة الدولة ثم يمنعها قهراً، أو يكلفنا بما لا نستطيع أو ما هو فوق طاقتنا.
إن حامل الدعوة يعيش في واقع مليء بالمحن؛ يُطارد، يُسجن، يُفصل من عمله، يُخوَّن، وتُحارب فكرته من كل اتجاه. وهنا يظهر الأثر الحقيقي لفهم القضاء والقدر.
إنه يعلم أن الأذى قَدَر، وأن الرزق قَدَر، وأن النصر قَدَر. لكنّه في الوقت نفسه يعلم أن تكليفه بالدعوة هو أمر واجب وتقاعسه عن القيام به إثم، وكل بلاء يقع عليه في هذا السبيل سيكون مكافأة له أمام الله، وأن الله لن يسأله لِمَ لم تُنصر؟ بل سيسأله هل حملتَ الدعوة كما أُمِرت أم قصرت فيها؟
فهو يسير في درب طويلة، لا يرجو إلا وجه الله، ويعلم أن القتل أو الحبس أو التشريد ليس إلا أجلاً كُتب له لن يتقدم ولن يتأخر، فيحمل الدعوة بثبات، ويقول كما قال ﷺ: «وَاَللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ».
إن القضاء والقدر في الإسلام ليسا عائقاً في طريق التغيير، بل دافع للعمل بإخلاص وطمأنينة، لأنه يُرسي في القلب أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن صدقت مع الله، فإنك موعود بالنصر ولو بعد حين.
إن حامل الدعوة إذا جمع بين الإيمان بالقدر والعمل الجاد، وبين السعي الدؤوب والتوكل على الله، فإنما يسير على طريق محمد ﷺ، ويكون من جيل التمكين، لا من جيل التبرير.
وختاماً، نقول لحملة الدعوة:
اعملوا، وجدّوا، واصبروا، فأنتم على حق، وإن الله ناصرٌ دينه بكم أو بغيركم، فاجعلوا أنفسكم من جنده المختارين، الذين يُحسنون الفهم، ويُتقنون العمل، ويثبتون مهما اشتدت العواصف، ووالله لَتُقيمَنّ هذه الأمة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة قريبا، شاء من شاء وأبى من أبى.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
محمود الليثي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر