- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
وصفة البنك الدولي لواحات تونس.. إدارة الأزمة أم إدارة التبعية؟!
حذر البنك الدولي في تقرير حديث أعده بالشراكة مع مؤسسات بحثية تونسية من مخاطر جسيمة تهدد واحات تونس نتيجة الاستغلال المفرط للمياه الجوفية والتغيرات المناخية وضعف الحوكمة. وسلط التقرير الضوء على الأهمية البيئية والاقتصادية لهذه الواحات باعتبارها "جواهر طبيعية" و"خزانات للتنوع البيولوجي". وكشف عن ارتفاع المساحات المزروعة في الواحات من 17,500 هكتار عام 1992 إلى أكثر من 51,000 هكتار اليوم، بفضل التوسع في استخراج المياه العميقة، خاصة في الجنوب. وقدّم التقرير سيناريوهين: استمرار التدهور أو الإصلاح المستدام الذي قد يحقق مكاسب اقتصادية تصل إلى 7 مليارات دينار وإخلاف أكثر من 33 ألف فرصة عمل، مع خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بـ 22.5 مليون طن بحلول 2050.
كما شدد التقرير على أن مستقبل الواحات لا يتوقف فقط على التمويل والتقنيات الحديثة، بل على إصلاح منظومة الحوكمة، مشيراً إلى معاناة الواحات من تداخل الصلاحيات بين الوزارات والمجالس المحلية وجمعيات المستخدمين، في غياب التنسيق الفعال.
ودعا التقرير إلى إعداد خطط تنمية متكاملة لإدارة الواحات، وتحديث القوانين لتلائم خصوصياتها، مع إمكانية إدراجها ضمن قائمة محميات "اليونسكو" الحيوية.
ولإضفاء مصداقية علمية أعدّ البنك الدولي هذا التقرير بالتعاون مع مؤسسات بحثية تونسية مرموقة مثل المعهد الوطني للعلوم الفلاحية بتونس، والمعهد الوطني للبحوث في الهندسة الريفية والمياه والغابات، حيث غطى التقرير الجوانب البيئية والاقتصادية والاجتماعية، ما يجعله تحليلاً متكاملاً. ويشكل ناقوس خطر حول مخاطر حقيقية تهدد الواحات، خاصة مع توقع ارتفاع درجات الحرارة بمقدار 1.9 درجة مئوية وانخفاض الأمطار بنسبة 9% بحلول 2050.
لكن في المقابل تجاهل هذا التقرير الثروات المائية الهائلة جنوب تونس، خاصة المخزون العالمي للمياه الجوفية الألبية المشتركة مع الجزائر وليبيا، والتي تقدر بحوالي 40,000-50,000 مليار متر مكعب. كما ركز على الإصلاحات المحلية دون طرح رؤية إقليمية شاملة للتعامل مع المشكلة، والتي تتطلب تعاوناً مع كلّ من الجزائر وليبيا. كما لم يطرح بدائل مثل تحلية مياه البحر أو مشاريع الطاقة المتجددة كحلول استراتيجية.
البنك الدولي وتاريخ من الإملاءات الفاشلة:
مع أهمية الدراسة إلا أن هناك تساؤلاً عن اهتمام البنك الدولي كمؤسسة مالية ربوية تُعدّ من أشدّ أذرع النظام المالي العالمي والذي تهيمن عليه الولايات المتحدة ودول غربية كبرى، ومن أهم الأدوات لتحقيق النفوذ السياسي والاقتصادي من خلال الهيمنة على قرارات التمويل والاقتصاد.
منذ ستينات القرن الماضي، لعبت خيارات التنمية المدعومة من البنك الدولي دوراً كبيراً في تشكيل الأزمات التونسية المتعاقبة. منها دعمه تجربة التعاضد التي كانت مشروعاً تأسيسياً لرأسمالية الدولة حيث أُجبر الفلاحون على التخلي عن أراضيهم، ما أدى إلى تراجع الإنتاجية ونقمة شعبية واسعة. بعد ذلك، ومع سياسة الانفتاح في السبعينات، اختارت تونس الاعتماد على السياحة والصناعات المصدّرة ذات القيمة المضافة الضعيفة، وهو توجه شجعه البنك وصندوق النقد الدوليان. هذه الخيارات أدت إلى تركّز الاستثمارات على المناطق الساحلية وتهميش الجهات الداخلية، وتهميش قطاعات استراتيجية كالفلاحة والصناعة، فبقي الاقتصاد هشاً وتابعاً للخارج. ثمّ جيء ببرامج التعديل الهيكلي في الثمانينات: فُرض تحرير السوق وتقليص دور الدولة وخوصصة المؤسسات العمومية، ما فاقم البطالة والفوارق المجتمعية والجهوية. وكانت هذه الاختلالات من الأسباب العميقة لثورة 2011.
إغفال المخاطر الحقيقية في التقرير:
- الطاقة الهيدروجينية: لم يتناول التقرير خطورة اعتماد الطاقة الهيدروجينية لتسويقها لأوروبا على المياه الجوفية في الجنوب، والتي تتطلب كميات هائلة من المياه.
- التبعية المالية: يظل البنك الدولي جزءاً من النظام المالي العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة ودول غربية كبرى، ما يجعله أداة لتحقيق النفوذ السياسي والاقتصادي على دول العالم الثالث.
دعا التقرير إلى إدراج الواحات تحت قائمة اليونسكو
ما يعني فقدان السيادة غير المباشر، وذلك من خلال الالتزام بمعايير وقوانين تفرض قيوداً على استخدام الأرض والتنمية، ووضع الموقع تحت إشراف ومراقبة دولية، بما يؤثر على السياسات المحلية والتخطيط العمراني ويزيد من نسبة الاعتماد على التمويلات والخبرات الدولية.
والجدير بالذكر أن عديد الدول رفضت وماطلت في إدراج مواقعها التراثية لدواعٍ سيادية، فكيان يهود الغاصب رفض إدراج مواقع التراث في الأراضي الفلسطينية مثل أريحا والخليل، تعبيراً على أن تدبير اليونسكو يساهم في دعم المطالب الفلسطينية، وأن هذه الإجراءات تمس سيادته وتقلل من نفوذه، ما يطرح تساؤلات حول دوافع الترويج لمثل هذه الخطوة في تونس.
الأسباب الحقيقية لأزمة المياه والواحات والحلول البديلة
الأسباب الحقيقية تكمن في اختيار الأنظمة القائمة في بلادنا لسياسات تبعية للقوى الدولية بدلاً من البحث عن تكامل إقليمي يحقق الاكتفاء الذاتي ويحمي البلاد والعباد، والحال أن منطقة جنوب تونس تحتوي على أكبر مخزون عالمي للمياه الجوفية الألبية المشتركة مع الجزائر وليبيا، لكن سوء الإدارة وغياب التخطيط الاستراتيجي أفقد تونس ودول المنطقة فرصة الاستفادة من هذه الثروة. رغم أنّه في ذمتنا حكم شرعي يدعو إلى الوحدة السياسية والاشتراك في الثروات، ما كان ليمكن أن يحقق تكاملاً إقليمياً في جميع شمال أفريقيا. قال النبي ﷺ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ».
الحل الجذري يكمن في رفض الإملاءات الخارجية التي تهدف إلى إضعاف سيادتنا والتي تحول دون توحيد الاستراتيجيات مع الجزائر وليبيا لإدارة الموارد المائية المشتركة بشكل دائم وعلى أحسن وجه، وفسح مجال للتكامل والتنقل الحرّ ما يؤدي إلى تنوع مصادر الثروة وتنوع الاقتصاد عبر الصناعة والتجارة دون استنزاف المياه، مع تطوير تقنيات تحلية مياه البحر والري بالطاقة الشمسية وتطوير التقنيات لاستغلال الثروة المائية الهائلة التي تكفي جميع شمال أفريقيا لمئات السنين.
الخاتمة
في الختام، بينما يحمل تقرير البنك الدولي تحذيرات مهمة حول مخاطر تهدد واحات تونس، إلا أنه يظل محكوماً بأجندات اقتصادية وسياسية تخدم مصالح القوى الكبرى وتكرّس للتقسيم الاستعماري الذي كان ولا يزال السبب الرئيسي لضعفنا وعجزنا عن الانتفاع بخيراتنا التي جعلها الله مشتركة بيننا.
التاريخ يشهد أن إملاءات البنك الدولي لم تجلب لتونس إلا المزيد من البؤس والتبعية، من تجربة التعاضد في الستينات إلى المنوال الاقتصادي القائم على السياحة والخدمات إلى برامج التعديل الهيكلي في الثمانينات وآثاره الكارثية.
إن الحلّ الحقيقي يكمن في التحرر من هذه المقاربات الفاشلة واعتماد رؤية استراتيجية تقوم على التكامل الإقليمي بين دول المنطقة والاستفادة من الثروات الطبيعية ضمن أحكام الإسلام العظيم التي تدعو إلى إحياء الأرض والمحافظة على الثروات ومن أهمها المياه، وتدعو كذلك لوحدة المسلمين وانصهارهم كالبنيان الذي يشدّ بعضه بعضا، حتى نتمكن من إنقاذ واحاتنا وسائر ثرواتنا وتحويلها من مراكز للتبعية إلى نماذج للتنمية والسيادة والنجاح.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
ياسين بن يحيى