Logo
طباعة
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام (ح226) جميع أدلة الذين أحلوا الكنـز إذا أخرجت زكاته ساقطة عن درجة الاعتبار (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام

 (ح226) جميع أدلة الذين أحلوا الكنـز إذا أخرجت زكاته ساقطة عن درجة الاعتبار (1)

 

 

 

الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ، وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ، وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ، وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ، خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ، الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ، وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ، فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ، وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ. 

 

أيها المؤمنون:

 

 

السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ" وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّادِسَةِ وَالعِشْرِينَ بَعْدَ المِائَتَينِ، وَعُنوَانُهَا: "جميع أدلة الذين أحلوا الكنز إذا أخرجت زكاته ساقطة عن درجة الاعتبار". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الخَامِسَةِ وَالعِشْرِينَ بَعْدَ المِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:

 

المادة 142: يُمْنَعُ كَنْزُ المَالِ وَلَو أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ.

 

وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ، يَا أُمَّةَ القُرآنْ، يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ، يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ، يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبّاً، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيّاً وَرَسُولاً، وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجاً وَدُستُوراً، وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَاماً لِلْحَياَة، أَيُّهَا المُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ، فَوقَ كُلِّ أَرضٍ، وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ، يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ، أَيُّهَا المُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ. أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ، وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا، وَهَذِهِ هِيَ التتمة الأولى للمَادَّةِ الثَّانِيَةِ وَالأربَعِينَ بَعْدَ المِائَةِ. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ المَادَّةِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:

 

وَالَّذِينَ أَحَلُّوا الكَنْزَ إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ لَمْ يَجِدُوا وَلَا دَلِيلاً صَحِيحاً لَهُمْ، وَجَمِيعُ أَدِلَّتِهِمْ أَحَادِيثُ سَاقِطَةٌ عَنْ دَرَجَةِ الاعتِبَارِ لِضَعْفِهَا وَانْهِيَارِ أَسَانِيدِهَا، حَتَّى إِنَّ البُخَارِيَّ قَدْ وَضَعَ بَاباً عُنْوانُهُ: "بَابُ لَا كَنْزَ فِيمَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ". وَلَكِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي البَابِ وَلَا بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ يَدُلُّ عَلَيهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِندَهُ وَلَا حَدِيثٌ. وَجَمِيعُ الأَحَادِيثِ الَّتِي استَدَلَّ بِهَا عَلَى جَوَازِ الكَنْزِ إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ لَمْ يَصِحَّ مِنهَا شَيءٌ بَعْدَ أَنْ جَرَى تَتَبُّعَهَا جَمِيعِهَا فِي مَظَانِّـهَا، فَهِيَ أَحَادِيثُ لَا تَخْلُو مِنْ مَقَالٍ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، أَيْ سَنَداً وَمَتناً.

 

حديث أم سلمة: أَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الَّذِي يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى جَوَازِ كَنْزِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُمَا وَهُوَ: أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ عَتَّابٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَطَاء، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحاً مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَالَ: مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ».

 

وَالأَوْضَاحُ: نَوْعٌ مِنَ الحُلِيِّ. قَالَ فِي القَامُوسِ المُحِيطِ: «الوَضَحُ- مُحَركَةٌ - بَيَاضُ الصُّبْحِ وَالقَمَرِ» إِلَى أَنْ قَالَ: «وَحُلِيٌّ مِنَ الفِضَّةِ جَمْعُهُ أَوْضَاحٌ».

 

فَإِنَّ هَذَا الحَدِيثَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ ثَابِتَ بْنَ عَجْلَانَ فِيهِ مَقَالٌ حَيثُ تَفَرَّدَ فِي الحَدِيثِ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ ثَابِتْ: "مِمَّا أُنكِرَ عَلَى ثَابِتٍ حَدِيثُ عَتَّابٍ عَنهُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها"، وَمَعَ ذَلِكَ، وَحَتَّى لَوْ صَحَّ الحَدِيثُ، فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالحُلِيِّ الَّتِي تَلْبَسُهَا النِّسَاءُ، فَإِنَّ هَذِهِ لَا تُعَدُّ كَنْزاً إِذَا بَلَغَتِ النِّصَابَ وَأُخْرِجَتْ زَكَاتُهَا فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ الآيَةِ أَيْ أَنَّ الكَنْزَ كُلُّهُ حَرَامٌ سَوَاءٌ أَكَانَ سَبَائِكَ أَمْ مَضُرُوباً أَمْ غَيرَ ذَلِكَ إِلَّا الحُلِيَّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَنْزُهَا إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهَا، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى إِخْرَاجِ زَكَاةِ الحُلِيِّ وَمُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الكَنْزِ. وَهُوَ أَيْ هَذَا الحَدِيثُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلاً عَلَى جَوَازِ الكَنْزِ إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ مِنْ وَجْهَينِ:

 

أحدهما: الوجه الأول: إِنَّ هَذَا الحَدِيثَ جَاءَ جَوَاباً لِسُؤَالِ، وكُلُّ نَصٍّ جَاءَ جَوَاباً لِسُؤَالٍ، أَو جَاءَ فِي مَوضُوعٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ قَصْرُهُ عَلَى مَا خَرَجَ عَلَيهِ السُّؤَالُ، وَعَلَى المَوضُوعِ المُعَيَّنِ، وَلَا يَكُونُ عَامّاً لِكُلِّ شَيءٍ، لِأَنَّ لَفْظَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالسُّؤَالِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالمَوضُوعِ المُعَيَّنِ، فَيَكُونُ خَاصّاً بِهِمَا وَمَقْصُوراً عَلَيهِمَا فَلَا يَتَعَدَّاهُمَا، وَلِذَلِكَ يَكُونُ الحَدِيثُ خَاصّاً بِالحُلِيِّ فَتَكُونُ الحُلِيُّ إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهَا جَازَ كَنزُهَا وَمَا عَدَاهَا فَيَحْرُمُ كَنْزُهُ.

 

وَلَا يُقَالُ: "إِنَّ القَاعِدَةَ الشَّرعِيَّةَ هِيَ: (العِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ) وَهُنَا اللَّفْظُ عَامٌّ فَلَا يَكُونُ خَاصّاً بِالأَوْضَاحِ، بَلْ يَشْمَلُ الأَوضَاحَ وَغَيرَهَا، لَا يُقَالُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ القَاعِدَةَ هِيَ لِلسَّبَبِ، وَلَيْسَتْ هِيَ لِجَوَابِ السُّؤَالِ، وَلَا لِمَوضُوعٍ مُعَيَّنٍ. وَهِيَ قَاعِدَةٌ صَحِيحَةٌ وَنَصُّهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا قَاعِدَةٌ لِلسَّبَبِ لَا لِغَيرِهِ إِذْ قَالَتْ: (لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ) وَهُنَالِكَ فَرْقٌ بَينَ السَّبَبِ وَبَينَ المَوضُوعِ المُعَيَّنِ، وَبَينَ السَّبَبِ وَبَينَ جَوَابِ السُّؤَالِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ كَالآتِي:

 

أولا: السبب: فَالسَّبَبُ هُوَ أَنْ يَحْصُلَ أَمْرٌ فَيَنْزِلَ فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، مِثْلُ سَبَبِ نُزُولِ آيَةِ: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). (الأحزاب 36) فَإِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا كَمَا وَرَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الرَّسُولَ r خَطَبَ زَينَبَ ابنَةَ عَمَّتِهِ عَلَى مَولَاهُ زَيْدٍ فَكَأَنَّهَا أَبَتْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. فَهَذَا سَبَبُ نُزُولٍ، فَتَنْطَبِقُ عَلَيهِ قَاعِدَةُ: (العِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ) وَمِثْلُ: «سَبَبِ نُزُولِ آيَةِ المِيرَاثِ، فَإِنَّ جَابِرَ بْنَ عَبدِ اللهِ حِينَ جَاءَ رَسُولَ اللهِ يَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ r قَائِلاً: "كَيفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟ كَيفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟" فَلَمْ يُجِبْهُ الرَّسُولُ r بِشَيءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ المِيرَاثِ». (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ عَنْ جَابِر، وَاللَّفْظُ لِلبُخَارِيِّ)، فَهَذَا سَبَبُ نُزُولٍ، وَهَكَذَا جَمِيعُ أَسْبَابِ النُّزُولِ هِيَ مِنْ هَذَا النَّوعِ، وَهِيَ الَّتِي تَنطَبِقُ عَلَيهَا القَاعِدَةُ المَذكُورَةُ.

 

ثانيا: جواب السؤال والموضوع المعين: وَهَذَا خِلَافُ جَوَابِ السُّؤَالِ، وَخِلَافُ المَوضُوعِ المُعَيَّنِ. إِذِ المَوضُوعُ المُعَيَّنُ يَكُونُ الكَلَامُ فِيهِ، وَيَكُونُ هُوَ مَحَلَّ البَحْثِ، فَيَأْتِي الحُكْمُ لَهُ، وَلَا يَأْتِي الحُكْمُ ابتِدَاءً، وَلِذَلِكَ يُقْتَصَرُ عَلَى ذَلِكَ المَوضُوعِ. وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ المُعَيَّنُ يَكُونُ لَفْظُ الرَّسُولِ r مُعَلَّقاً بِهِ، فَالكَلَامُ يَكُونُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيهِ.

 

فمثلاً أخرَجَ البُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ r إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِيناً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ r فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ r بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ، قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا، يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ، أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ r حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ»

 

فَجَوَابُ الرَّسُولِ r لِلرَّجُلِ خَاصٌّ بِمَا سَأَلَ عَنهُ، فَيَكُونُ قَولُ الرَّسُولِ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً» مُعَلَّقاً بِسُؤَالِ الأَعرَابِيِّ. وَمَثلاً رُوِيَ عَنهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ جَوَازِ بَيعِ الرُّطَبِ إِذَا يَبِسَ، فَقَالَ النَّبِيُّ r: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: فَلاَ إِذاً». (أخرَجَهُ أَبُو يَعْلَى بِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ وَابنُ حِبَّانَ). فَجَوَابُ الرَّسُولِ r خَاصٌّ بِمَا سُئِلَ عَنهُ أَيْ بِبَيعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَيَكُونُ قَولُهُ: «فَلا إِذاً» مُعَلَّقاً بِالسُّؤَالِ.

 

ثالثا: الفرق بين الجواب وسبب الحكم: فَهَذَا لَيسَ سَبَباً لِلْحُكْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ، وَهُنَاكَ فَرْقٌ كَبِيرُ بَينَهُ وَبَينَ سَبَبِ الحُكْمِ. فَاللَّفْظُ العَامُّ إِنْ جَاءَ جَوَاباً لِسُؤَالٍ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِلْحُكْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِمَا جَرَى السُّؤَالَ عَنهُ، وَاللَّفْظُ العَامُّ إِذَا جَاءَ تَشْرِيعاً لِحُكْمٍ جَدِيدٍ لِأَمْرٍ قَدْ حَصَلَ، فَإِنَّ تَشْرِيعَ الحُكْمِ يَكُونُ عَامّاً، وَيَكُونُ حُصُولُ الأَمْرِ سَبَباً لِتَشْرِيعِ الحُكْمِ.

 

وَبِهَذَا يَظْهَرُ الفَرْقُ الشَّاسِعُ بَينَ السَّبَبِ وَبَينَ جَوَابِ السُّؤَالِ. فَالسَّبَبُ يَكُونُ الحُكْمُ عَامّاً يَشْمَلُهُ، وَيَشْمَلُ غَيرَهُ، أَمَّا جَوَابُ السُّؤَالِ فَيَكُونُ خَاصّاً بِالسُّؤَالِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ مُعَلَّقٌ بِهِ.

 

وَأَمَّا سُؤَالُ الرَّسُولِ عَنْ مَاءِ البَحْرِ وَإِجَابَتُهُ عَلَيهِ بِقَولِهِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ». (أَخْرَجَهُ التِّرمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيرَةَ، وَقَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)، فَإِنَّ هَذَا الحَدِيثَ كَذَلِكَ خَاصٌّ بِالمَسئُولِ عَنهُ وَهُوَ مَاءُ البَحْرِ، وَلَكِنَّ الرَّسُولَ بَيَّنَ لِلسَّائِلِ أَكْثَرَ مِـمَّا سَأَلَ عَنهُ، غَيرَ أَنَّهُ ظَلَّ جَوَابُ الرَّسُولِ خَاصّاً بِمَا سُئِلَ عَنهُ، وَهُوَ مَاءُ البَحْرِ، وَمَحْصُوراً بِهِ.

 

Boloogh10 02 2025

 

وَكَذَلِكَ سُؤَالُ الرَّسُولِ عَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، فَإِنَّهُ حِينَ سُئِلَ عَنهُ قَالَ: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ». (أَخْرَجَهُ التِّرمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وَقَالَ: حَسَنٌ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ، فَإِنَّهُ كَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِالسُّؤَالِ)، فَأَجَابَ عَنْ مَاءِ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَلَكِنَّهُ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِـمَّا سَأَلَ عَنهُ، غَيرَ أَنَّهُ ظَلَّ جَوَابُ الرَّسُولِ مُتَعَلِّقاً بِالسُّؤَالِ.

 

وَكَذَلِكَ فَقَدْ سَأَلُوهُ عَنِ الوُضُوءِ مِنْ مَاءِ البَحْرِ، فَأَجَابَهُمْ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الوُضُوءِ، وَمِنَ الغُسْلِ وَغَيرِهِ. قَالَ فِي (الإِمَامِ شَرْحُ الإِلْمَامِ): «لِمَ لَمْ يُجِبْهُمْ بِـ(نَعَمْ) حِينَ قَالُوا (أَفَنَتَوَضَّأُ بِهِ؟) قُلْنَا: لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُقَيَّداً بِحَالِ الضَّرُورَةِ، وَلَيسَ كَذَلِكَ. وَأَيْضاً فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنَ الاقتِصَارِ عَلَى الجَوَابِ بِنَعَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يُتَوَضَّأُ بِهِ فَقَطْ، وَلَا يُتَطَهَّرُ بِهِ لِبَقِيَّةِ الأَحْدَاثِ وَالأَنْجَاسِ». فَيَكُونُ جَوَابُ الرَّسُولِ عَنْ مَاءِ البَحْرِ، وَعَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ مَحْصُوراً فِيمَا سُئِلَ عَنهُ، وَلَيسَ عَامّاً فِي كُلِّ شَيءٍ، إِلَّا أَنَّهُ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَ عَنهُ، وَلَكِنْ فِي مَوضُوعِ سُؤَالِهِ، وَالكَلَامُ لَيسَ فِي مُطَابَقَةِ الجَوَابِ لِلسُّؤَالِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ جَوَابَ الرَّسُولِ أَعَمُّ مِنْ سُؤَالِ السَّائِلِ، بَلِ الكَلَامُ فِي حَصْر الجَوابِ فِي مَوضُوعِ السُّؤَالِ وَاقتِصَارِهِ عَلَيهِ وَكَونِهِ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيرِهِ، وَلَيسَ فِي مُطَابَقَةِ الجَوَابِ لِلسُّؤَالِ.

 

قَالَ الشَّوكَانِيُّ فِي نَيلِ الأَوْطَارِ: «وَمِنْ فَوَائِدِ الحَدِيثِ مَشرُوعِيَّةُ الزِّيَادَةِ فِي الجَوَابِ عَلَى سُؤَالِ السَّائِلِ لِقَصْرِ الفَائِدَةِ، وَعَدَمِ لُزُومِ الاقْتِصَارِ. وَقَدْ عَقَدَ البُخَارِيُّ لِذَلِكَ بَاباً فَقَالَ: بَابُ مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ. وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ r مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلاَ الْعِمَامَةَ، وَلاَ السَّرَاوِيلَ، وَلاَ الْبُرْنُسَ، وَلاَ ثَوْباً مَسَّهُ الْوَرْسُ، أَوْ الزَّعْفَرَانُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ». فَكَأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ حَالَةِ الاخْتِيَارِ فَأَجَابَهُ عَنْهَا، وَزَادَ حَالَةَ الاضْطِرَارِ، وَلَيْسَتْ أَجْنَبِيَّةً عَنِ السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ السَّفَرِ تَقْتَضِي ذَلِكَ». انتَهَى مَا جَاءَ فِي نَيلِ الأَوْطَارِ.

 

وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الجَوَابَ مَحْصُورٌ بِالسُّؤَالِ، لَاحِظْ قَولَهُ: "وَلَيْسَتْ أَجْنَبِيَّةً عَنِ السُّؤَالِ" سَوَاءٌ أَكَانَ الجَوَابُ مُطَابِقاً لِمَا سَأَلَ السَّائِلُ، أَمْ كَانَ أَكْثَر مِمَّا سَأَلَ فَكُلُّهُ يَكُونُ الجَوَابُ خَاصّاً بِالسُّؤَالِ. وَلِهَذَا فَإِنَّ سُؤَالَ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها هُوَ عَنِ الأَوْضَاحِ، فَيَكُونُ جَوَابُ الرَّسُولِ r خَاصّاً بِالأَوضَاحِ وَمُقْتَصِراً عَلَيهَا، وَلَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيرِهَا، لِأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ، وَلَيسَ سَبَبَ نُزُولِ حُكْمٍ. وَبِذَلِكَ يَسْقُطُ الاستِدْلَالُ بِهَذَا الحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الكَنْزِ إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ؛ لِأَنَّ الحَدِيثَ خَاصٌّ بِالحُلِيِّ.

 

أيها المؤمنون:

 

 

نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.

وسائط

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.